من منا لا يحب أن يكون قائداً مؤثراً؟ بل من منا ليس بقائد؟! إذ أن مفهوم القيادة له دائرة كبيرة مرنة تتسع وتضيق وفقاً لمسؤولية وأدوار كل إنسان، فحياة أحدنا لن تخلو منها مهما ضاقت؛ فكل إنسان هو بدءًا قائد لنفسه وراعي لها، ثم تتسع دائرة قيادته باتساع مسؤولياته ودائرته الاجتماعية.
وهذا التوسع في القيادة يشمل العالمين الواقعي والافتراضي، فهي تكون مع النفوس وفي البيوت والمؤسسات الدينية والحكومية، وفي ما يصطلح عليه بعالم اليوم "المؤثرون"، و"صناع المحتوى"، فلكي يستقيم أمر هذا الإنسان ويثبت على خلوص نيته، ولا تتقلص قيمه ومبادئه مع توسع دوره القيادي (الشهرة والتأثير) يحتاج أن يتحصن بنور كلام أئمته في عالم مليء بالظلمات والفتن المضلات.
وإحدى هذه الأنوار هي ما جاء عن إمامنا علي (عليه السلام) بخصوص هذا المحك، هو عندما أجابه رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له فقال الإمام (عليه السلام): "فلا تكلموني بما تُكَلِمُ الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه! فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل "(١) فمن هذا النص نستلهم الإرشاد الوقائي قبل الوقوع بفخ الشهرة واتباع الهوى، والدواء الشافي لمن زلت قدمه واعتل قلبه وسقط وهوى!
فالإمام (عليه السلام) بما هو كنموذج للقائد الإلهي الرسالي الحقيقي يوجّه هذا الكلام وينصح به من هو لهم قائد، فهذا المعنى تارة كاشف عن نفاذ البصيرة عنده (صلوات الله عليه) في معرفة النفس وعللها، وتارة أخرى فيه تنبيه خطير إذ أن إمام المتقين (عليه السلام) ينبه من حوله بهذا الحزم من هذه الأمور وينهاهم عن فعلها معه، فكيف بمن ليس بضامن حقيقة تقواه وقوته النفسية أمام هذه الأفعال التي قد تصدر من مريديه ومحبيه؟! فالإنسان ذو التقوى البسيطة أولى بهذا التنبيه والتحذير لمن حوله كي لا تُصدق النفس ما ليس فيها فتعيش العجب ثم التكبر ثم السقوط.
إذن لكي يصبح الإنسان قائد رسالي نافع ومستقيم السيرة والمسيرة عليه أن لا يغفل عن هذه التنبيهات الأربع فيُذكر بها نفسه أولاً، ومن ثم هو يبادر ويوصي بها من حوله…
وأول إرشاد هو قوله: (فلا تكلموني بما تُكَلِمُ الجبابرة)، الأمير(عليه السلام) هنا لا يشبه نفسه بالجبابرة -حاشاه- ولكن يشير إلى حقيقة تعاني منها النفوس البشرية وهي إنها -عادة - تميل إلى أن تنقاد لمن تهابه مهابة خوف، وتطيع من يترفع ويتعالى عليها، كما يشير لذلك قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}، فالخلل في نفوسهم السقيمة التي لم تستثمر فطرة التوحيد التي جبلت عليها لتعيش بكرامة.
فهنا الإمام (عليه السلام) يشير مرة إلى حقيقة قيادته نافيًا عنها سمة التجبر والتسلط، ومرة أخرى ناهيًا إياهم عن اتباع أساليب التعامل التي فيها إذلال وإهانة للنفس وتعظيم وتبجيل للقائد، فهو يريد أن ينمي فيهم العزة وعدم اذلال هذه النفس إلا للملك سبحانه وتعالى.
بالنتيجة الإنسان القائد يجب أن يعرف حدوده فلا يسمح لمثل هكذا نفوس من حوله أن تضعه في موضع ليس له، فإن صدق ما ليس فيه عاش كالجبابرة، وإن كان صادقا معهم نهاهم عن ذكر ما ليس فيه، وهكذا يكون قد نجا من طغيان النفس وأنجاهم من هذا الضعف.
أما الإرشاد الثاني بقوله: (ولا تتحفظوا مني بما يُتَحَفَظُ به عند أهل البادرة)، قيل في معاني "البادرة: الحدة والغضب"(٢)، أي الذين لا تتوقع ردة فعلهم ما هي عند محادثتهم او الطلب منهم، وهذا غير المتوقع في الشر والأشر لا في الخير والشر، ولعل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): [شر الناس عند الله يوم القيامة الذين يُكرَمون اتقاء شرهم](٣)، يصف بشكل دقيق هذا الصنف من الناس.
وهنا أيضاً الإمام (عليه السلام) لا ينفي عن نفسه أن يكون من هذا الصنف، ولكن يقول لمن حوله حتى هذا المستوى المتوهم من التوقي النابع من الخوف مني لا يُرتجى أن يصدر منكم، إذ أن التحفظ لا يصدر إلا على أثر وجود خلل في العلاقة بين القائد والتابع، أما الانفتاح في الطلب وإبداء المراد منه يكشف عن اوسعية وانشراح صدر القائد، واعتياد التابع على استشعار هذا الحال فيه، فهو بيت أبوابه مشرعة تُفتَح قَبلَ الطَرق.
فهذا الإرشاد يعطي سمة أخرى في القائد وهي سعة الصدر فيه والاطمئنان النفسي من قبل المنقادين إليه، فمن دون الاطمئنان لا تتحقق الثقة، ومن دون الثقة لا تنجح القيادة.
أما الإرشاد الثالث فبقوله: (ولا تخالطوني بالمصانعة)، من معاني المصانعة أي أن تتصنع التعامل لا أنه يكون التعامل حقيقي لمن تخالط، وهذا فيه غش للطرف الآخر، كإظهار التودد والمحبة وهو من المبغضين، إظهار الموافقة والقبول على ما يفعل وهو من الرافضين، إظهار الثناء والمدح وهو من الماقتين، أو بشكل أدق هي المبالغة بالتودد والمدح والثناء، فهذا وجه من وجوه صنع علاقة ظاهرها قوي مع الآخر لكنها هشة وضعيفة في الباطن، وهنا الطرفان على خسارة، فالمُدَاهِنْ خاسر لأنه منافق، والمُدَاهَن مغشوش ومُضَلل، فالإمام (عليه السلام) يتحدث عن المخالطة أي هناك تلاقي مستمر فيه أخذ وعطاء، فيها إرشاد ونصح وتشاور.
وكأن الإمام (عليه السلام) يشير إلى أن القائد الحقيقي ميزة من ميزاته إنه كيس فطن لا تنطلي عليه النفوس المتصنعة، فالحياة لا تخلو من هؤلاء، والمؤمن الرسالي يتأسى بإمام المتقين فلا يخلو قلبه من بصيرة تريه وجه حقيقة أمثال هؤلاء، وكذلك إنه لا يضطرهم لذلك ليصلوا إلى ما يحتاجون، فالذي يتصنع هو يفعل ذلك عادة ليصل إلى شيء يريده يبتغيه، الإمام هنا يقطع الطريق المعوج عليهم كي يستقيموا ويسيروا على طريق سوي، بقوله لهم: تعالوا بوجهكم الحقيقي واطلبوا تعطون.
أما الإرشاد الرابع فقوله: (ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه! فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ؟).
هنا الإمام وضع ميزان كاشف للقائد الحقيقي من غيره، وهو أن يختبره اتباعه في أن يقولوا الحق ولو فيه، وأن يشيروا عليه بما لا يوجب ظلمه أو بخس حقه وحرمته، فإن قَبِلَ وعمل على إصلاح ما أشاروا إليه من مواطن الفساد فيه أو في عمله، فهو بحق قائد ويمكن الثقة به والاعتماد عليه واتباعه، وإن استثقل ذلك وأبى الاستماع فهو خلاف ذلك، لذا الامام (عليه السلام) يشير هنا إلى حقيقتين الأولى للقائد بأن يربي نفسه ويبني منهجه الرسالي على الحق فإن مال، لم يستنكف التنبيه والإرشاد ليعود إلى استقامته.
والحقيقة الثانية هي إلى التابعين في أن لا يسلموا ويثقوا دون تفحص وتدقيق دائم لهذا القائد لثقتهم به وتجربتهم الأولى معه بل لابد أن يبقى تحت الرقابة والتجربة، فالإمام يقول [فلا تكفوا]، فالإنسان بطبعه إن علم إنه مراقب ومحاسب يكون أكثر التزامًا ووفاءً فيما عاهد، أما إن تُرك فقد يتهاون ويتساهل حتى يرى نفسه بعيداً عن سيرته الأولى، وهنا ضياع للقائد وتضيع لعهود المقود.
بالنتيجة الأمير(عليه السلام) في هذه العبائر القليلة يرشدنا إلى حقيقة وجوهر غاية أن تكون قائد، أو أن تسعى لقيادة شريحة من المجتمع وذلك بأن تكون جزء من عملية بناء وجوداتهم الإنسانية وفقًا للقيم السماوية التي تحث الإنسان على أن يحفظ كرامته فلا يهينها، ويحترم ذاته فلا يذلها، ويقوم سلوكياته فلا يشوها بالنفاق، بل ويكون مساهماً في حفظ استقامة القائد بأن يكون له معيناً إذا زلت قدمه، ويكون له عيناً كي لا تزل قدمه.
————-
اضافةتعليق
التعليقات