أمام جاذبية العيون الواسعة في رسومات كارتون الأنمي، والأداء الصوتي المثير لباقة من المشاعر المختلفة لأبعد مدى (ما بين سعادة عارمة، أو حزن عميق، أو خوف مميت، أو دهشة يتوقف عندها الإنسان مشدوها! لذلك ليس من الغريب تسلل سحر الأنمي بقصصه العجيبة، وبسيناريوهاته اللافتة المستمدة من الفانتازيا اليابانية المحاكية لخوارق العادات، والمتأثرة بالعقائد الباطنية الشرقية إلى نفوس الكبار والصغار، محدثاً فيها خللاً فكرياً وعقديا ومتسببا لها في تعلق واضح لا ينتهي إلا بدرجات متقدمة من الارتباط الذي يرافقه تطبع عجيب مع تلك الشخصيات التي تأثر بها، وقد يصل إلى التشبه بهم أيضاً..
لازلت أتذكر حالة الصدمة والحزن العميق لوالدة تشتكي من انقلاب حال ابنتها بعد تعرضها لمواد الأنمي، من فتاة تنبع بالبراءة والوداعة والتفاؤل وحب الناس، إلى فتاة شاحبة الوجه عدوانية تردد عبارات عدمية تماثل ما طغى على عدد كبير من نفوس هذه الشخصيات الكرتونية "الغامضة والمريبة! بل تقليدها حتى في قص شعرها لتشبه بطلة أحد الأفلام.
يصاحب كل ذلك أعراض أخرى مثل اللامبالاة تجاه مواقف الحياة، وشعور دفين بالمظلومية، وانسحابها عن التواجد مع الأهل والصديقات، وكانت نصيحتي بلا أدنى تردد: سحب الشاشة التي تتابع منها الفتاة تلك الرسوم، مع دمجها بالمجتمع القريب، وأخذها إلى حضور دورات تزكي نفسها من درن تلك الأفكار الملوثة التي تشربتها، وذلك من خلال حلقات حفظ القرآن، ودورات التعرف على سنة النبي، كما نصحتها ببضع جلسات علاج معرفي سلوكي للفتاة على أيد مختصات ثقاة، يدركن حجم تلك المأساة وتعاملن معها، مع التأكيد على دور الأهل في دعم الفتاة واحتوائها، وجذبها بالحب والمرونة من ذاك العالم المظلم! ثم تلا ذلك المثال أمثلة كثيرة وصلتني بتفاصيل تكاد تكون نسخا متكررة عن نفس هذه الكارثة... فللأسف.. كثير من أفلام الأنمي لا تخلو من تعاطف مع "قوى الشر" أو "الظلام" على حساب قوى الخير، مع وجود عبارات إلحادية يتم عرضها بشكل علني على لسان أبطال تلك الأفلام.. مثلما نجد في عمل (Fullmetal alchemist) سخرية من الإيمان بالله، وتصوير للمتدينين بتصوير ساذج مقابل (Edward Elric) البطل الملحد والعبقري، والعالم الفذ الذي لا يؤمن بالخرافة.. إلخ، ومقولات مثل: "لا يوجد إله"!.
تلك الأفكار المسمومة تتسلل إلى عقول الناشئة صغاراً وكباراً مغلفة بعسل التسلية والترويح عن النفس، ومن هذا المنطلق أي الترويح المباح عن النفس يتجه بعض شبابنا - المغروس فيهم بذور الخير - للترفيه عن أنفسهم عبر متابعة الرسوم الكرتونية "الأنمي" أو لعب الألعاب الإلكترونية، على افتراض خلوها من المحظورات المتواجدة في ساحات الإعلام الهابط...
لكن لو تأملنا بعين ناقدة تلك المواد: لوجدناها لا تخلو من تعاطف مع الجاني، وتطبيع مع الشذوذ، ومع العلاقات المحرمة، وذلك عن طريق مشاهد تحارب العفة بل ومظاهر ومعاني الرجولة .. في ورقة علمية نشرت في مجلة أوراق فينيكس، المجلد. ٣، رقم 1 في شهر أغسطس عام ٢٠١٧، اختير فيها أكثر تسع أنميات انتشاراً – بحسب تقييمها في موقع التصنيف (MyAnimeList) آنذاك - وهي: Fullmetal Alchemist: Brotherhood - Death Note - Attack on Titan - Naruto - Code Geass - Fullmetal Alchemist - Clannad Bleach - Angel Beats. ثم من هذه التسع أنميات اختاروا عشوائيا ٥ حلقات من كل أنمي، ما مجموعه ٤٥ حلقة تتضمن ٧٣٢ شخصية. ثم أتوا بمسجّلي بيانات مستقلين وأي اختلاف بينهم يُحسم من جهة مُسجّل بيانات ثالث.
وعلى مُسجّلي البيانات تصنيف الشخصيات إلى ذكر وأنثى، وشخصية رئيسة وثانوية وفرعية بالإضافة إلى كتابة الأنماط الجنسية التي يحويها مظهر الشخصيات في الإناث مثلا يُسجل شكل الخصر النحيف مع تضخم الأجزاء المثيرة في جسم المرأة"، وما يمكن أن يثير جنسيا من: الملابس ووضعيات الشخصية وملامح الوجه وغير ذلك. وفي الذكور ما يتعلق بملامح الوجه والتضخم العضلي وما شابه. وخلصوا إلى نتائج عدة منها: تدعم الأرقام بقوة أن أكثر الأنميات شعبية في موقع (MyAnimeList) تحوي مشاهد مثيرة جنسيا. ويكثر المحتوى الجنسي في الشخصيات الأنثوية، بحيث أنّ عدد الإناث اللاتي يتم تصويرهن أو تمثيلهن أو إظهار هن بنمط مثير جنسيا كان ۹۳ من أصل ٢٤٣ شخصية أنثوية رصدت في ٤٥ حلقة من هذه الأعمال.
وعدد الإناث اللاتي يتصفن بصفة "تضخم الأجزاء مع الخصر النحيف" ٢٧ شخصية رئيسة، و ١٥ شخصية ثانوية، و ۸ شخصيات فرعية، ما مجموعه ٥٠ شخصية. وعدد الشخصيات التي تلبس ملابسا ذات إيحاءات جنسية ٥١ شخصية رئيسة، و ١٩ شخصية ثانوية، و ۱۲ شخصية فرعية، ما مجموعه ۸۲ شخصية. (وفي دراسة أخرى أجريت في الجزائر عام ۲۰۱٦ بجامعة العربي بن مهيدي / أم البواقي، أوضحت أن الآباء باتوا غير متسمين بالجدية لمراقبة المحتوى الذي يتابعه الناشئة، والذي بات يتسم إلى حد كبير بالعنف، وبأن الناشئة يفضلون الأفلام التي تحوي المشاهد العنيفة، وبأنه كلما زادت مدة التعرض للمواد الإلكترونية: كلما زاد السلوك العنيف لدى الناشئ..
هذه الدراسات أزالت عن ذهني تساؤلات عديدة كانت تُطرح لدي أثناء دعوتي للملاحدة والمتشككين الذين يُظهرون على ملفاتهم الإلكترونية الشخصية تأثراً واضحا بالأنمي، والذي كان يصل أحيانا إلى درجة التعصب والتماهي مع بعض الشخصيات.
وفي صفحة "العائدون" على منصات التواصل الاجتماعي، يسرد الكثير ممن كانوا متأثرين بتلك الرسوم "غير البريئة" عن أحوالهم أثناء متابعتهم لها، والأفكار التي كانت تراودهم، وكيف شعروا بروابط مشتركة بينهم وبين تلك الشخصيات سواء كانت خيرة أم شريرة، وكيف تنمذجوا على ردّات أفعالهم، وتصرفاتهم، وأفكارهم، وأسلوب حياتهم وغيرها ... هذه الخطوة لم تتطلب منهم سوى صدق مع النفس، والخروج من دائرة المخادعات، والوعي بحقيقة أن المتابع يُحب التماهي مع شخصيات خيالية: تفعل مالا يجرؤ على فعله ومشاهدته على أرض الواقع ...! ونهيب بجيل الشباب وذويهم اختيار الأفكار والمشاهد والمدخلات التي تتسلل إلى عقولهم، بصورة أكبر وأهم من اختيار الأطعمة والأشربة الصالحة للاستهلاك البشري...
فكما قد يتسبب الطعام العفن في تسمم البدن، فكذلك تتسبب الأفكار المسمومة في التسمم الفكري والوجداني، والذي يتبعه انحرافات سلوكية وفطرية خطيرة.. ولا يسلم من ذلك الأفلام الهوليودية، وأفلام ديزني لاند التي باتت تطبع على قدم وساق مع الشذوذ والإلحاد وإنكار الثوابت الأخلاقية...
وقد خرج علينا د. حسن الحسيني ليحذرنا من كارثة أخرى تمرر تحت بند الترويح والتسلية ومتابعة الأفلام "العائلية"، ففيلم مارفل الجديد Eternals يتحدث عن مجموعة "أبطال خارقين" من إنتاج شركة مارفل التابعة لديزني، والتي لم تكتف بالتلاعب منذ عشرات السنين بهيبة الغيبيات، وبتجسيد الشخصيات الأسطورية بصورة تلحد في صفات الله كونها تجسد هذه الشخصيات على أنها مطلقة القوة، مطلقة العلم، خالدة لا تفني تدير الكون... إلخ)، بل استطالت معاول هدمها لتتجرأ على وضع شخصية بطل خارق مسلم "شاذ جنسيا" ومنع دور عرض عربية من إلغاء مشاهد تلك الانحرافات الشاذة التي تظهرها تلك الشخصية فالهدف إذن هو تطبيع المسلمين مع الشواذ وقضاياهم، وليس الربح أو الشهرة أو حتى تقديم ما يسمونه !.. فنا وهذا يحدث للأسف، وكثيراً ما وجدت شكاوى من متابعاتي لتعاطفهن مع الشواذ بعد مشاهدة أفلام تطبع مع قضاياهم، أو نشر روايات تسرد انحرافهم الفطري بأسلوب يغرس مشاعر الاستعطاف لدى القارئين دون أن يشعروا... ويظهر ذلك لاحقا في مواقفهم أو سلوكهم أو ميولهم، وربما أحلامهم أيضاً. والشاهد أن ما يعرف بالأفلام والرسوم الإلكترونية والتحديات الترفيهية: أغراضها السامة لم تعد تخفى على عاقل، وآثارها السلبية لا تخلو من عيادات ومراكز الدعم النفسي.. ومازال العالم لم يفق من صدمة أحداث العنف والانتحار التي طبقها بعض الشباب حول العالم تحقيقاً لتحديات بعض الألعاب الإلكترونية (مثل لعبة مومو، والحوت الأزرق.... وسعياً إلى تحطيم أرقام مشاهدات ومتابعات كبيرة (كتحديات التيك توك وغيره التي سببت إقبالاً كبيراً من الأطفال على تنفيذها، فنجي بعضهم من الموت المحتم، في حين لم ينج منه آخرون مثل الفتاة ذات العشر سنوات التي ماتت عقب تنفيذها تحدي فقدان الوعي، وكذلك مظاهر الاكتئاب المخيمة على اليافعين، حيث الاكتئاب هو أحد الأسباب الرئيسية للأمراض النفسية في هذه الفئة العمرية، والانتحار هو ثالث أسباب الوفاة الرئيسية في صفوف من تتراوح أعمارهم بین ۱۵ و۱۹ عاماً. وتستأثر حالات الصحة النفسية بنسبة ١٦٪ من العبء العالمي للمرض والإصابات في صفوف هذه الفئة العمرية.
كما نجد أفلاما وبرامج وألعاباً شكلت عادات عقلية مضطربة، حيث تختلف عن العادات العقلية السوية المستمدة من الحياة اليومية الطبيعية فتكرار تقديم المثيرات مثلاً وتحفيز الفرد على الاستجابة لها بطريقة غير طبيعية، جعلت الفرد لا يتحفز للمواقف الحياتية البسيطة بصورة طبيعية! لا الأصوات، ولا الألوان، ولا حتى طبيعية العلاقات وتبعاتها صارت تشكل حافزاً ينشط الاستجابة الفعالة عند المتعلقين بشاشات الأجهزة الذكية..
وبعد التأمل والنظر في حالهم، تبين أن تأثير التعامل غير الواعي مع المواد الإلكترونية بأشكالها المتنوعة بديناميكية شدة المثير " Stimulus - Intensity Dynamism" أضافت إلى الشخصيات التي تتفاعل معها سمات الشخصيات المدمنة مثل : الاضطرابات الأخلاقية، التمرد العصيان، الاكتئاب، العزلة الاجتماعية، الميل إلى الانطواء والخمول وفقدان الحيوية، عدم ترابط الأفكار وتدني مستوى الدراسة سرعة الاستثارة والغضب، نقص الوزن أو زيادته بصورة ملحوظة، الميل إلى الكذب والخداع والسرقة، وكثرة المشكلات مع الزملاء أو المعلمين أو الوالدين أو الجيران ...
ومما لم يعد يخفى أن الشخصيات المدمنة تتأثر بشكل أكبر بالإيحاءات والنزعات الفكرية المنحرفة والمتطرفة - كونها تميل إلى التبعية - وهذا ما يبرر تقليد أفعال شخصيات الأفلام، والاستجابة للتحديات في الألعاب ووسائل التواصل الاجتماعي مهما كانت عنيفة ومتطرفة، وذلك بحجة الترويح عن النفس، لكن كل ذلك ينطوي على دافع خفي، وهو الهروب من الواقع الحقيقي بتحدياته الحقيقية إلى الاستجابة إلى تحفيزات مبالغ فيها في عالم افتراضي وذلك تحت جهد الاستجابة الذي تم التكيف معه.
مقتبس بتصرف من كتاب "لصوص الصحة النفسية" للمؤلف "نور النومان"
اضافةتعليق
التعليقات