الماضي.. هو الوحش القابع في اعماق كل إنسان؛ قد يفترسك وماحولك ما إن تفتح له بوابة الزمن المنصرم فيرديكَ قتيلاً أو معطوباً..
الماضي.. هو الزهرة المغروسة في حنايا الروح؛ تعبق شذىً كلما هزّها نسيم الذكريات ويبقى ذلك العبق عالقا في جدران الفؤاد..
هو الماضي بحلوه ومرّه؛ هو تلك المحطة التي مرّ بها قطار العمر يوماً فأبى البعض إلّا الترجّل والتشبّث بأذياله فوقفوا على أعتابه فقط، إذ لا قطار يعود بهم فعقارب الساعة لاتعود الى الوراء.
وفطِنَ البعض إلى أن قطار عمره يمضي الى محطته الاخيرة وأن التعلق بما فات لن يجدي نفعاً و اللبن الذي سكب على الارض لن يعود بالبكاء، فجارى سنّة الحياة واخذ من الماضي الخبرة والتجربة والذكريات الجميلة.
نعم، كلنا لنا ماضي، فمن لاماضي له لا حاضر له، وقد يكون الماضي حزينا وقد يكون سعيدا، قد يكون فشلا أو نجاحا، قد يكون خذلان صديق أو لفتة لطيفة من غريب، أخطاء اُقترفت، فراق او موت عزيز، وطن غادرته طوعا أو كرها...
ان ننسى تماما فهذا محال، ولكن هل نترك الصور والاحداث تنفلت من عقال الزمن لتعبث بحياتنا وصحتنا؟!
اذاً كيف نتعامل مع الماضي ولاسيما ان كان فيه اخطاء لاتُغتفر وهل من اصلاحها من سبيل؟!
(هنري هانستين)، كان أحد المشاركين في اختراع القنبلة الذرية الامريكية والتي ابادت الالاف، لم يتحمل وطأة الماضي الأليم فوضع حداً (لتأنيب ضميره) و ذكرياته الأليمة فألقى بنفسه من فوق جسر للمشاة!!
(ألفرد نوبل)، مخترع الديناميت وصاحب مصانع أسلحة كثيرة، قامت صحيفة فرنسية بنشر نعي عنه عن طريق الخطأ وتمت كتابة النعي بجملة: تاجر الموت ميت!!
شعر نوبل بالأسى والحزن و(تأنيب الضمير) فأوصى بمعظم ثروته التي جناها من الاختراع الى جائزة نوبل والتي تمنح سنويا للفائزين بالعلوم والأدب المثالي ولشخص أو مجتمع يقوم بأكبر خدمة للسلام الدولي، كالحد من الجيوش أو في انشاء او تعزيز مؤتمرات للسلام.
كِلا الشخصين كان (مجرما)، وقد أقرّا بأخطائهما، وبغض النظر عن تفاصيل حياتهم، ولكن نأخذ كيف تعامل كل منهما أمام ما جنت يداه، أحدهما هرب وانتحر والآخر واجه أخطائه وأصلح مايمكن اصلاحه قبل موته وبعده على حدّ ظنه.
والتأثّر الشديد بالماضي أو التعلّق به قد يظهر بصورة القلق والانعزال والسرحان الطويل وحتى المرض الجسدي والنفسي كالكآبة وستتأثر العلاقات الاجتماعية للشخص.
فقد أوردت صحيفة التلغراف البريطانية دراسة عن موقف الاشخاص من ذكريات الماضي، وقالت: لقد لاحظنا أنه حين ينظر الاشخاص بصورة سلبية لذكريات معينة عاشوها في الماضي، فإنهم يتعاملون أيضا من منظور متشائم أو قدري مع الاحداث الراهنة، وهو الأمر الذي يتسبب في حدوث مشاكل كبرى في علاقاتهم ويُظهر هؤلاء الناس مؤشرات تنذر بتدهور نوعية حياتهم.
وتؤكد الدراسات النفسية ان المرأة اكثر معاناة في هذا المجال من الرجل.
وتوصل الباحثون لهذه النتائج: أنه وفقا لما لاحظنا في دراستنا، تبين لنا أن البعد الأكثر تأثيرا هو ذلك المتعلق بالطريقة التي ينظر من خلالها الأفراد للماضي.
وهنا مربط الفرس وهو طريقة النظر.. فماهو شكل ولون منظارك الى الماضي؛ مصغّر أم مكبّر، وردي أم أسود؟!
يا حبّذا الاعتدال في هذه النظرة فلا النسيان التام ينفع ولا التفكير الكثير يغيّر شيئا..
فإن أسأت استغفر الله وأصلِح وكفّر عن سيئاتك (ولاسيما حق الناس)..
وإن فقدت عزيزا.. إذرف دموع الوفاء واهديه ماينير به قبره، فالذكريات وحدها لن تفيده ولن تفيدك في شيئ..
وان فشلت وخاب ظنك بأحدهم فتعلّم واتعِظ من هذه التجارب فتكون قد اكتسبت خبرة تدلك على الصحيح والخطأ وكما تقول الحكمة: الأمس صديق مؤدب أبقى لك عظة وترك فيك عبرة..
وان فارقت وطنا واصدقاء فادعوا الله بأن تعود اليهم أو تلتقي بهم ولاتكتفي بالتغنّي بما تركت..
وان كان الماضي صور جميلة وحنين يسكن أضلعنا فلا تتحسّر بل أيقظها وعش لحظات سعيدة تُنسي واقعك الأليم وتكون زادك لأيامك المقبلة..
وفي كل الاحوال التجأ الى الله واطلب منه نعمة النسيان وأشغل نفسك بالعمل عن التفكير فالتفكير يأتي من الفراغ..
ولا تنغمس في الماضي المنصرم وتنسى حظك من الحاضر، ويقول تعالى في محكم كتابه الكريم:(لكي لاتأسوا على مافاتكم). و"ما فات مضى وماسيأتيك فأين فقم واغتنم الفرصة بين العدمين".
اضافةتعليق
التعليقات