تعلمنا الكثير عن تغيير النماذج الانفعالية والعاطفية. ولكن ماذا عن هذه الاستجابات التي انتقلت إلينا بالوراثة؟ وماذا عن تغيير ردود الأفعال المعتادة لمن هم بطبيعتهم متقلبون أو خجولون؟ إن هذا النطاق من الحياة العاطفية يقع في دائرة الطبع، والخلفية التي تنم عن مشاعرنا التي تميز طباعنا الأساسية ومن الممكن تعريف الطبع في إطار الأمزجة التي تتجسد فيها حياتنا العاطفية فلكل منا - إلى حد ما – مجال عاطفي مفضل والطبع من معطيات الميلاد، هو جزء من خطنا الوراثي الذي له قوة دافعة في نمو الحياة، وقد لاحظ هذا كل أبوين منذ مولد طفلهما.
طفل يكون هادئا ورائقا أو سريع الغضب وصعبا والسؤال هنا، هل يمكن تغيير وضع بيولوجي محدد عاطفيا، بالخبرة؟ وهل تركيبنا البيولوجي يحدد مصيرنا العاطفي؟ أو هل من الممكن أن ينمو طفل خجول بالفطرة، فيصبح شابا أكثر ثقة؟
تأتي الإجابات الواضحة عن هذه التساؤلات من دراسة «جيروم كاجان» المختص في علم نفس النمو بجامعة هارفارد، يثبت «كاجان» أن هناك - في الأقل - أربعة أنماط من الطباع الخجول، والجسور، والمبتهج، والسوداوي، وأن كل طبع من هذه الطباع يرجع إلى نموذج من نشاط المخ المختلف كما توجد اختلافات أيضا لا حصر لها في الطباع الفطرية الموهوبة هذه الاختلافات أساسها اختلافات فطرية في الدوائر العصبية التي تحكم الانفعالات ويختلف البشر في انفعالاتهم في مدى سهولة إثارتها، ومدى استمراريتها، وشدتها وتركز أبحاث كاجان على أحد أبعاد هذه النماذج، وهو بعد الطبع الذي يمتد بين الجرأة الشديدة والخجل.
ظلت الأمهات لعقود عدة، يترددن بأطفالهن على معمل «كاجان» لنمو الطفل في الطابق الرابع عشر ، بقاعة وليام جيمس بجامعة هارفارد ليكونوا تحت الملاحظات التجريبية، كجزء من دراسته عن نمو الطفل. لاحظ كاجان ومعاونوه في مجموعة من الأطفال البالغين 21 شهراً، علامات مبكرة على الخجل وفي أثناء لعبهم الحر مع غيرهم من الأطفال، كان بعضهم يلعب تلقائيا مع الآخرين من دون تردد أما البعض الآخر فكانوا غير واثقين ومترددين فتخلفوا وتشبثوا بأمهاتهم، وأطفال آخرون أخذوا يشاهدون غيرهم وهم يلعبون وبعد 4 سنوات أجرت مجموعة «كاجان» ملاحظات على هؤلاء الأطفال أنفسهم، فلاحظوا أن الأطفال الخجولين ظلوا كما هم متحفظين.
يستنتج كاجان أن الأطفال مفرطي الحساسية والشعور بالخوف، يغدون في شبابهم خجولين هيابين. وهناك حوالي 15 - 20% من الأطفال منذ مولدهم يتميزون بالكف سلوكيا، كما يطلق عليهم كاجان هؤلاء الأطفال يخجلون من أي شيء غير مألوف، وهذا يجعل من الصعب إرضاءهم بتقديم أطباق جديدة من الطعام مثلا، ويقاومون الاقتراب من الحيوانات أو الأماكن الجديدة، ويخجلون من الغرباء، وتأخذ حساسيتهم أشكالا أخرى هم مثلا ينزعون إلى الإحساس بالذنب، وتأنيب الذات هم أنفسهم الأطفال مَنْ سنراهم في مستقبل حياتهم في حالة قلق وارتباك في المواقف الاجتماعية أو في الفصل الدراسي، أو في الملعب، وعندما يلتقون بأشخاص جدد، أو تسلط عليهم الأضواء الاجتماعية ويميل هؤلاء الأطفال في شبابهم إلى أن يكونوا بمعزل عن الناس، ويخافون بصورة مرضية من إلقاء كلمة في تجمع عام.
«توم» أحد الأولاد الذين شملتهم دراسة الدكتور كاجان من مجموعة نموذج الخجل كان «توم» في كل عملية قياس تمت في الثانية، والخامسة والسابعة من عمره، من أكثر الأطفال خجلا وعندما بلغ الثالثة عشرة وأجريت له مقابلة شخصية، كان متوترا جامد الشفتين مرتعش اليدين ووجهه جامد التعبير ولا يبتسم سوى ابتسامة خفيفة عندما يتحدث عن صديقته وإجاباته مقتضبة، وسلوكه يتسم بالخنوع وعلى مدى سنوات طفولته الوسطى حتى حوالى الحادية عشرة، يتذكر خجله المؤلم، فيتصبب عرقا كلما اقترب من زملائه في الملعب. كان يشعر أيضا بالمخاوف المكثفة من احتمال احتراق منزله، أو غرقه في حمام السباحة، أو أن يكون وحيدا في الظلام.
كانت الوحوش تهاجمه في كوابيس متكررة وعلى الرغم من أنه بات يشعر بالخجل بصورة أقل من العامين الأخيرين، فإنه مازال يشعر ببعضالقلق في وجوده مع الأطفال الآخرين وتتركز همومه الآن على نجاحه في المدرسة، على الرغم من أنه على قمة الخمسة في المائة المتفوقين فيفصله ولأنه ابن أحد العلماء، يرى أن مسار حياته المستقبلية يجب أن يكون في هذا الحقل العلمي الجذاب، ما دام مجالا يناسب ميله للعزلةويناسب استعداداته الانطوائية.
وعلى النقيض من «توم» كان رالف واحدا من أكثر الأطفال جرأة وانطلاقا بين كل الأعمار كان دائما مستريحا وكثير الكلام، يجلس في المقعد مطمئنا، بلا أي تصرفات عصبية ويتحدث في ثقة وبنبرة ودية، كما لو أن من يجري معه المقابلة الشخصية ند له على الرغم من فارق السن بينهما الذي يبلغ 25 عاما، ولم يعان في طفولته سوى حالتين فقط من الخوف لفترة قصيرة الأولى خوفه من الكلاب، بعد أن قفز عليه كلب وهو في الثالثة من عمره، والثانية الطيران، لأنه سمع عن تحطم طائرة وهو في السابعة من عمره ولم يحدث أن اعتبر رالف نفسه خجولا أبدا، وكان يتمتع بالشعبية بين أقرانه وعلاقاته طيبة بهم.
ومن الواضح أن الأطفال الخجولين يولدون بدوائر عصبية تجعلهم أكثر تفاعلا حتى مع أخف حالات التوتر. ومنذ الولادة تكون نبضات قلوبهم أسرع من غيرهم، استجابة للمواقف الغريبة أو الجديدة وقد أظهرت أجهزة رصد سرعة نبضات القلب، أن قلوب الأطفال المتحفظين الممتنعين عن اللعب، دقاتها تتسارع بسهولة مع أبسط توتر واستثارة ويبدو أن هذا القلق الذي استثارهم بسهولة يشكل أساس خجلهم طوال الحياة وهم يتعاملون مع أي شخص أو موقف جديد، كما لو أنه خطر محتمل وربما كانت نتيجة هذا الخجل.
ما تشعر به النساء في أواسط العمر اللاتي يتذكرن خجلهن في مرحلة الطفولة عند مقارنتهن بزميلاتهن المنطلقات فيبدو واضحا، نزوعهن لخوض الحياة بمزيد من المخاوف والهموم والإحساس بالذنب كما يعانين من مزيد من المشاكل المتصلة بالتوتر، مثل الصداع النصفي، وتقلص الأمعاء ومشاكل المعدة الأخرى.
اضافةتعليق
التعليقات