"المودّة" كلمة تأتي في معاجم اللغة من الجذر الثلاثي "وَدَدَ"، وتدلّ على المحبّة الصافية الخالصة. ومن عجائب وأسرار "المودّة" في بيان ذوي القربى، أنه محالٌ أن يصل المرء إلى حبّ الله تعالى من دون حبّ النبي، ومحال أن يصل إلى حبّ النبي من دون حبّ ذوي القربى، فالحبّ والودّ الحقيقي هو حبّ الثلاثة معًا: (الله، والنبي، والآل)، ولا يصحّ حبّ أحدهم دون الآخر. وذلك ما يشير إليه مفاد تلك الآية الكريمة:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
أي إنّ الاتّباع من لوازم المحبّة فضلًا عن المودّة؛ لأنّ المودّة تمتاز بخصائص على المحبّة، وهي أعلى درجة منها، فإذا كانت المحبّة من لوازم الاتّباع، فمن باب أولى أن تكون المودّة من لوازم الاتّباع.
والاتّباع يعني الولاء المطلق، والطاعة، والتسليم الكامل لتوجيهاتهم وتعاليمهم، والإخلاص، والتفاني في نصرتهم.
وقد وردت أحاديث كثيرة مستفيضة أو متواترة عند الفريقين عن النبي محمد ﷺ تؤكّد أنه لا يكتمل إيمان أحد، أو لا يؤمن أحدكم، حتى يكون الله ورسوله وذرية رسوله أحبّ إليه من نفسه وذريته.
فمودة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) فريضة واجبة من الفرائض القرآنية، عظّمها الباري تعالى، وجعلها في مصافّ أصول الدين، كما ورد في قوله تعالى:
(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) [الشورى: 23].
فالضمير "عليه" في الآية، سواء عاد إلى جهد النبي ﷺ أو عاد إلى الدين، فجهد النبي هو الدين، فالمعنى واحد. فالرسالة برمّتها، بعقيدتها وتوحيدها ومعادها، جُعلت في كفّة، ومودّة القربى في كفّة أخرى، فَقطب رحى الدين وغايته ومحوره يدور على مودة "ذوي القربى". فكل نبي سأل الله الأجر على تبليغ الرسالة، إلا النبي محمد ﷺ، فقد سأله الأجر في مودّة قرباه وعترته.
وعندما نزلت تلك الآية الكريمة على رسول الله ﷺ، سألهم ثلاثة أيام، وقال:
«أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى قد فرض لي عليكم فرضًا، فهل أنتم مؤدّوه؟»
قال: فلم يجبه أحد منهم، ... قال أبو عبد الله (عليه السلام):
فوالله ما وفّى بها إلّا سبعة نفر: سلمان، وأبو ذر، وعمّار، والمقداد بن الأسود الكندي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، ومولى لرسول الله ﷺ يقال له: الثبيت، وزيد بن أرقم.
[بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج23 - ص237].
وقد تصدّى سلاطين العلم والبلاغة والفصاحة لبيان ما اختلف فيه حول مدلول "ذوي القربى" — قرابة رسول الله ﷺ ومودّتهم — فعمّمه البعض على جميع قرابات النبي وزوجاته.
فقال الإمام الحسن بن علي (صلوات الله وسلامه عليهما) في خطبته:
"أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم، فقال: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودّة في القربى)، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنًا"، واقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.
وقال الإمام الحسين بن علي (صلوات الله وسلامه عليهما):
"وإنّ القرابة التي أمر الله بصلتها، وعظّم من حقّها، وجعل الخير فيها، قرابتنا أهل البيت الذين أوجب (الله) حقّنا على كل مسلم".
[بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج23 - ص251].
وقالوا: "يا رسول الله، من هؤلاء الذين أُمرنا بمودّتهم؟"
قال: "عليّ وفاطمة وولداهما".
[بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج23 - ص230].
وعن إسماعيل بن عبد الخالق قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول، وأنا أسمع:
"أتيت البصرة؟"
فقال: نعم... ثم قال: "ما يقول أهل البصرة في هذه الآية: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودّة في القربى)؟"
قلت: جعلت فداك، إنهم يقولون: إنها لأقارب رسول الله ﷺ.
فقال: "كذبوا، إنما نزلت فينا خاصّة، في أهل البيت، في علي وفاطمة والحسن والحسين، أصحاب الكساء (عليهم السلام)".
[الكافي - الشيخ الكليني - ج8 - ص93].
وقد جاء في مودّتهم فضل كثير، منه ما روي عن الإمام جعفر الصادق (صلوات الله وسلامه عليه):
"إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أيها الخلائق، أنصتوا، فإن محمدًا ﷺ يكلّمكم. فتنصت الخلائق، فيقوم النبي ﷺ فيقول: يا معشر الخلائق، من كانت له عندي يد أو منّة أو معروف فليقم حتى أكافئه. فيقولون: بآبائنا وأمهاتنا، وأيّ يد، وأيّ منّة، وأيّ معروف لنا؟ بل اليد والمنّة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق. فيقول لهم: بلى، من آوى أحدًا من أهل بيتي، أو برّهم، أو كساهم من عُري، أو أشبع جائعهم، فليقم حتى أكافئه. فيقوم أناس قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله تعالى: يا محمد، يا حبيبي، قد جعلت مكافأتهم إليك، فأسكنهم من الجنة حيث شئت. قال: فيسكنهم في الوسيلة، حيث لا يُحجبون عن محمد وأهل بيته (عليهم السلام)".
[وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج16 – ص333].
ولو أن الأمّة اجتمعت على مودّة ومحبة ذوي قربى النبي ﷺ، مودّةً صادقة، كحنين جذع النخلة، الذي ذكرته الروايات أنّه أنَّ أنينًا واشتاق للنبي حين فارقه، واعتلى بدلًا عنه منبرٌ خشبي صنعه له بعض الصحابة؛ ذلك الحنين الذي سمعه كلّ من كان في المسجد،
لَعَمَّت الألفة، وسادت الرحمة، وانتشر السلام، واستقام العدل، ولأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم، كما قالت الصدّيقة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها.
فلا معنى حينها لظلم، ولا محلّ لطغيان، ولا مدخل لحسد، سينتهي كلّ شر، وستصبح الدنيا كأنّها الجنّات الموعودة الخالدة.
اضافةتعليق
التعليقات