قد ينكر امرؤ وجود عائق وحيد واضح في حياته يعطله، ومع هذا تراه جامداً، معطلاً، غير فعال.. وذلك لعدم شعوره بضرورة العمل أو الحركة، ولاعتقاده أن ليس هناك ما يستدعي بذل الجهود. ورغم أنه قد لا يعترف بذلك بلسانه، إلا أن واقعه يشهد عليه، إذ أن لكل إنسان معتقدات وقناعات نظرية.
بالإضافة إلى مظاهر للتعبير عنها تبدو على السلوك وعلى ممارسته العملية لما يحمل من أفكار ومفاهيم، وإن الناحية المسلكية قد تطابق المعتقدات النظرية، وقد تخالفها. فكلما كانت درجة التوافق جيدة وعالية ودقيقة، كان ما يدعو إليه هذا الإنسان أعظم مردوداً وأفضل تأثيراً ولكن في واقع الحياة.
وسير التاريخ لیست قيمة الإنسان فيما يعتقده نظرياً وما يعرفه ويعلمه بل فيما يلتزمه سلوكياً وعملياً من اعتقاداته.
إن أغلب المسلمين الآن يعتقدون نظرياً بقابليتهم لإغواء الشيطان لكونهم بشراً غير معصومين أو منزهين. ولكن ما هو واقع الأمر الذي تعبر عنه أحوالهم السلوكية وواقعهم العملي؟ إنه الإصابة بحيلة نفسية ومدخل شيطاني وهو (الكمال الزائف). وهو ذلك الشعور بالطمأنينة للوضع الفردي والاجتماعي، والإحساس بأنه ما من شيء ينبغي أن يتغير، وليس هنالك ما يقتضي التبديل أو يستوجب التحسين، فإذا ما أدى المسلم الفرائض (الرئيسية وزاد عليها ببعض النوافل والتطوعات البسيطة الأخرى، اطمأن واكتفى، ووصل إلى درجة الشعور بالكمال، ولو لم يقر بذلك صراحة فتقصيره وضعف فعاليته ومبادرته، وعدم تسخير وقته ووسائله لما هو نافع مؤثر في سير التاريخ تم اقتناعه (وأي اقتناع) بأن أسلوبه هو الحق الصحيح الكامل وما دونه الخطأ والباطل.
إن كل هذه الأمور لتنبئ عن مرضه، وإن تصوره بأنه وصل إلى درجة لا يحتاج بعدها إلى إعادة النظر فيما عنده، ليس إلا شعوراً بالكمال كمال العقم الذي لا نتيجة إيجابية بعده صحيح أنه علينا ألا نيأس، وأن نبقى متفائلين، محسنين الظن بالله ولا تيأسوا من روح الله. إلا أن هذا لا يعني أن نقع في المزلق المقابل، بأن نبقى في حالة من الركون والأمن المفرط ... والغرور بالوضع لنصبح ممن يأمن مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسِرُونَ.
وهذا يحدده واقعنا لا أقوالنا ومعتقداتنا النظرية المجردة إن هذه الألعوبة الشيطانية كفيلة بأن تحجر الفرد وتجمده حول قناعات خاصة كونها لنفسه وعقمها فأصبح وكأن ما لديه لا يأتيه الباطل من بين يديه فتموت قدرته على النقد الذاتي الصحيح، والتقويم الموضوعي لأفكار الآخرين فيتقوقع. ويمسي وكأن ما يحمله فقط الصواب. مما يحرمه من إصلاح أخطائه من جهة، ومن الاستفادة من الصواب الذي يأتي به غيره من جهة أخرى - خلفه هو إن البقاء المتزن في حالة نفسية سليمة والذي يعقب حد الشعور بالأمن والكمال، ولا يصل إلى حد اليأس أو يتعداه. وإن الشعور الدائم بالتقصير! الشعور الإيجابي الدافع للعمل اليومي والآني. كفيل بأن يبقي التوتر والفعالية للإنسان ويمنحه القدرة على العمل، والإثمار، والاجتهاد، والإنتاج، وبالتالي يقربه من الموضوعية.
دائماً يعقب الشلل الأخلاقي شلل فكري واجتماعي، شأن الأول أن يمنع البناء الفردي السليم (الثقافة)، ومن شأن الآخر أن يحول دون البناء الاجتماعي السليم أيضاً وهو (الحضارة) من إن واقعنا يفسر ما قد أقنعنا أنفسنا ضمنياً به وهو أنه لكوننا مسلمين فإن الله قد أحبنا وسينجينا وسيرزقنا وسينصرنا... الخ، متجاهلين سنة الكون في الجد والعمل وبذل الجهود لا تجاهلاً مفاهيميا نظرياً. بل تجاهلاً واقعياً في مسلكنا، ولا غرابة: فالمقدمات السليمة لا بد إلا وأن تعطي نتائج سليمة حتماً. فإذا ما رأينا خللا في وضعنا الاجتماعي الذي هو نتيجة لأوضاعنا النفسية وأفكارنا فلا بد أن تراجع ونعيد النظر في هذه!
وخاصة معتقداتنا (اللاشعورية) التي أصبحت توجه سلوكنا بشكل خاطئ دون أن ندري لأنها أصبحت بديهيات ضمنية لا تحتاج إلى استكناه واستبطان أو إعادة نظر!... (كاعتقادنا الضمني بكمالنا) إن تغيير ما بالنفس من مفاهيم من شأنه أن يغير ما بالقوم من واقع. "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".. فمجرد إحساسنا بأننا (أحباء الله) (والذي كثيراً ما كررت أن وضعنا العملي هو الذي يشهد على ذلك).
إن مجرد الشعور العاطفي بذلك لن ينفي عنا مسؤوليتنا عن أي سوء في أوضاعنا النفسية أو الاجتماعية. ذلك أن الله تعالى يقول وقوله الحق: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتابِ". "مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجز به". فالأمر إذاً ليس بأمانينا، أو عواطفنا الذاتية، أو مشاعرنا الخاصة، إنما هو يخضع لسنة العمل ونتيجته لذا كان علينا أن نمحو من أنفسنا هذا الشعور بالكمال ونقضي على هذه الخيلة النفسية.. التي تشعرنا خطأ بحسن أوضاعنا، والتي تجعلنا نعتقد أننا معقمون ضد النقص والشيطان، إن ذلك الاعتقاد جزء من مكره يقول أحدهم (إن من أمكر حيل الشيطان أن يقنعنا بعدم وجوده) .
ليس عدم وجوده في عالم الواقع دائما، بل عدم وجوده داخل أنفسنا أيضاً وهذا هو الشلل الأخلاقي أو الكمال الزائف بعينه فلنشرع بالمعالجة الإيجابية لهذه الثغرة بالتحصيل المستمر والعمل الدائب والاعتماد على التجرد والموضوعية في الأحكام والتقويم - قدر الإمكان – وأن يتم كل ذلك ضمن إطار طاعة الله وذكره الدائم للوصول إلى ما يحبه ويرضاه، وإلا فالنتيجة معروفة واضحة، (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكرِ الرَّحْمَنِ نقيض له شيْطَانَا فَهُوَ لَهُ قرين).
إن ذكر الله، وهو حالة نفسية يسودها الشعور بمراقبة الله لأعمالنا وأقوالنا والتي يترتب عليها التبصر في العمل أو القول قبل الشروع فيه والذي يمكن أن تعبر عنه بالتماس الإخلاص والصواب معاً، إن هذا الذكر علاوة على كونه ذكراً لسانياً وقلبياً قد يكون أيضاً بالتوجه الى الله في أقوالنا وأعمالنا وحياتنا واتباع أوامره في السعي الدائم والعمل المستمر وتحري الصواب، وباختصار لا يكون ذكر الله في الإخلاص والتوجه القلبي فحسب بل في الإخلاص والصواب معاً.
فملتمس الإخلاص الذي يحقق معه الصواب لا بد وأن يكون أنفع الناس للناس وذلك لصفاء نيته وتوجهه أولاً (أي التماس الإخلاص) ولتبصره في سعيه ونشاطه وحركته ثانياً الأمر الذي يضمن له حسن النتائج النافعة (وهذا التماس للصواب) فليست صحة النتائج في مجالنا هذا إلا النفع الحقيقي للناس، وقد جاء ذكر هذا النموذج في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (خيرُ النَّاسِ أنفعه للنَّاسِ). ولأنه عمل وأثر وقدم نتائج جيدة مفيدة، فتحركه هذا هو دليل على إنقاذ نفسه أيضاً من سراسر العطالة النفسية الشيطانية (الشلل الأخلاقي) أو (الشعور بالكمال الزائف).
اضافةتعليق
التعليقات