لطالما توصل الإنسان إلى بدائلٍ تقيه من مُرديات المهالك وإلى سُبلٍ أقرب منها إلى النجاة؛ ليكون بمقدوره الحضور في محطات الحياة التي لابد لها أن تأخذهُ إلى الموقف الأخير.
فمما اشتملت عليه الخطط الإنسانية لمكافحة الانعزال المجتمعي لفئة الصُمّ والبُكم.. هي اكتشاف لغة لا تؤدي فيها الحروف دورها المعتاد بل تعمل على الانخراط ضمن السكون الهادف لتعطي بذلك الأحقيّة للجوارح بأن تصبح ناطقةً للإشارة.
لغة الإشارة.. هي لغةٌ تمحورت حول فئةٍ قليلة من المجتمع وتحددّت بمحدودية أصحابها، ولكنّها في الحقيقة لغةٌ سكنت أرض الله قبل خلقهِ، ليشرح بها ما لا تُطيقهُ الأحرف وليحمل فيها أمانته القديمة.
قال تعالى: "إنَّ في خَلقِ السماواتِ والأرض ِواختلاف الليلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأولي الألباب"
فآيات الله خُلقت لتتلو ترنيمة الإدراك ولتُشعل في أذهان الأمّة فتيلَ المسألة، لماذا؟.. كيفَ؟.. وأين؟ ليأتها الجواب على هيئةِ إشاراتِ متتابعة تنطقُ في داخلهِم حرفاً لا ينضب.
ولكن.. هل تقتصر آياتُ الله على خلقهِ المادي ليحرمَ أرضهُ من إشاراتٍ بشرية تدعو إلى حُبّه؟ بل وتصدحُ بهيّبتهِ وتكونُ أبواباً له وأدّلاءٌ عليه؟
قال أميرُ المؤمنين(ع): "ما لله نبأ أعظمُ مني، وما لله آيةٌ أكبر منّي.."، سار الأمير مسرى الإشارات الدالة إلى طرق النجاة في بقعتهِ فلقد كان بطرق السماء أعرف منهُ بطرقِ الأرض، و كان آيةً لله خلت من دونها الآيات ولكن هل كانت الأمة من ذوي الألباب لتبصر بذلك نور علي (ع)؟ وإن كانت أمّةً عمياء .. فلماذا استمر بينهم بكونهِ دليلاً لمن لا يستدّلُ بهِ؟
عُرف المولى (ع) بكونهِ أول مظلوم في ربوع الإسلام وأول أميرٍ لا تُقبل شهادة عشرة آلاف شخص على ولايته كما جاء في حديث الإمام الصادق (ع): "نعْطِي حُقُوقَ النَّاسِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَ مَا أُعْطِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّهُ بِشَهَادَةِ عَشْرَةِ آلَافِ نَفْسٍ يَعْنِي الْغَدِيرَ". ولكنّه كان موجوداً رغم كُلِّ المتلاشين، يخطب في مسجدِ ما لبث أن سُبَّ على منابرهِ ويُطعمُ أفواهاً قد قضمت يد المعروف ويُفرّج كُربة من كان كُربةً على حياتهٍ، فقد يستنكر البعض استمرارية أمير المؤمنين(ع) في طرق أبواب القلوب المقفلة واجتهاده في أداء دوره الرسالي مع علمهِ بمن صمّوا آذانهم ولجموا أفواههم بالاعتراف بأحقيّة القول والقائل..
لماذا؟
لأن الرسالة لا تصمت مهما كانت البيئة صمّاء، فعندما قرر من في الغدير أن يتناسوا العهد الموثوق لمن والتهُ سماءُ ربّه اختار أن يكون سماء لهم حتى لو كانوا أرضاً جرداء، فصاحبُ الرسالة يكون إشارة ناطقة ليجدد عهدهُ دائماً مع رسالته، فلقد اختار أميرُ المؤمنين (ع) أن يكونَ حيّاً بين الموتى.. يُجابهُ موتهم بيقينه ليُعلّم كُلَّ ذي رسالةِ حقيقة بأن الحقّ غيرُ مدين للمُصدقيّن به بل هو مدينٌ للداعين إليه .. كيفما كان وأينما حلَّ.
اضافةتعليق
التعليقات