تراكم الصمت وارتفع بيننا كجدار اسمنتي للحد الذي لم يعد بيننا ثقبا تمر الكلمات عبره، والأيام باتت سريعة كالميل الثالث حتى كادت تعانق الساعات بعضها فلا أنتبه كم مر منها سارقا أيامي، أهيم بأوراقي وما تبقى من الحروف التي باتت ساكنة بعدما غادرها الشغف وتلاشت بزحام الأيام وربكتها.
هناك مَن يتملكه الشغفُ تجاه السفرِ والترحال، ومَن يشغف برائحةِ القهوة في الصباح، وهناك مَن يزداد شغفه كلما لامست أنامله الأبجدية فكون منها لوحة بيد فنان تنتظر الصورة حتى تكتمل، ولا ينقضي شغفه إلا مع نقطة الانتهاء، بينما هناك من يجد سعادة جمة في صنع قطعة أثاث، قد لا يكون في حاجة إليها، لكنه مشغوف بدق المسمار في الخشبِ، واستخدام الغراء، ثم النظر إلى ما خلقت يداه في الفراغ،
كأول دقة لمطرقة الصانع هكذا دقت بعبث أيامي على تفاصيل الساعة فاردفت باحثة عني كيف تهت دون إدراك مني وأصبحت صفحاتي خاوية المعنى باردة الأحاديث تلصق على شاشتها ما رُمي هنا وهناك دون أن تضفي عليها لمستها.
أغلبنا يصحو ويأكل ويعمل وينام، ولا يدري أين يبث شغفه، نتحرك ونؤدي ما علينا من واجبات ومهام، دون أن نملك الحماس تجاه أي منها، أغلبنا يقاوم أسباب اليأس والإحباط، لكنها مقاومة لا تتجاوز غرض البقاء على قيد الحياة، مقاومة تتسرب خلالها الروح، ويتلاشى كُل ولع، ربما لا تنم هذه الحال عن مرض، ولا توصف لها العقاقير، ربما لا يشكو منها أحد، ولا ينتبه إليها الواقعون هذا مايفعله فقدان الشغف فينا.
إن الشغف مقرون في عديد من الأحيان بعاطفة الحب بين البشر، وكثيرا ما ورد في سير العشاق السابقين واللاحقين، فقد ذكر في القرآن الكريم: (شَغَفَها حُبَّاً)، ﴿٣٠ يوسف﴾ اي أحاط حبه بقلبها وكذلك في قديم الشعر قيل: ”إني لأهواك غير ذي كذب، قد شف مني الأحشاءُ والشغفُ“، والمقصود هنا أن داء العشق قد مس القلب وأمرضه بما لا ينفع معه دواء، ولكن الشغف يتعدى هذا المعنى ليمس مفاصل الأيام لدينا فيحطم جدران الصمت بهمس آثاره وهو يجس نبض الإنسان فيثير شعلة النار حتى يصبح كل عمل يقوم به تحفة فنية صقلتها يدك بلمسة فنان مهما كان هذا العمل حتى لو كانت مجرد حروف ترتمي بجسدها على الأوراق. لكن شغفنا يتأرجح أحيانا ما بين مد وجزر، وهذا أمر صحي وطبيعي، لكن من غير الطبيعي أن يختفي لفترة طويلة، خاصة إذا اقترن هذا الفقدان بشعور الإحباط أو الحزن، والقلب الذي كان مثل النار المشتعلة تجاه شيء ما أصبح باردا لا يحركه أي حماس، وقد نشعر في هذه اللحظة بأننا محبطون من أنفسنا ونتساءل عن سبب فقدان الشعور بالشغف الذي كان موجودا في الماضي.
من أسباب فقدان الشغف:
- فقدان المحفز الأساسي الذي يدعو للإنجاز، وتحول الشيء الذي يُمارسه الشخص إلى روتين أو نمط حياة يومي سواء في العمل أو في البيت أو حتى على مستوى ممارسة الرياضة المفضلة أو الهوايات.
- عدم وجود هدف محدد ليتم التركيز على تنفيذه، أي فقدان البوصلة الداخلية التي تجعل الشخص يسعى لتنفيذ هدف ما.
- فقدان الشعور بالإنجاز، وتكرار الفشل، وعدم تقدير الغير لإنجازنا سواء المدير أو الأصدقاء أو الأهل.
- فقدان الشعور بالإلهام، والشعور بالملل أو التوتر أو الإرهاق الجسدي.
- الإرهاق العاطفي الذي يجعل الشخص يشعر بأنه مستنفذ عاطفيا ولم يعد بإمكانه منح نفسه أو الآخرين أي شيء على المستوى النفسي أو العاطفي.
- عدم وجود إحساس بالإنجازات الشخصية، والشعور بعدم الثقة، وغياب المكافآت والتقدير.
إن آلية استعادة الشغف تحتاج إلى إعادة التحفيز والشعور بالحماس، ولهذا لا بد من السعي لاستعادته بأسرع وقت.
جدد شغفك بالخطوات الآتية:
- منح النفس الوقت الكافي للراحة لأجل التعافي وإعادة شحن الطاقة، وقد تكون هذه الخطوة هي كل ما يحتاجه فاقد الشغف كي يستعيد عافيته وحماسه.
- أخذ إجازة قصيرة للحصول على الإلهام من جديد.
- قضاء مزيد من الوقت مع النفس، وزيادة الاهتمام الذاتي لاستعادة التوازن الداخلي.
- التركيز على نقاط القوة من جديد، ومحاولة اكتشاف هوايات ومواهب جديدة.
وفي النهاية الشغف يكون بالشيء لذاته، لا لمكسب يترتب على القيام به، أو لمردود ينتظر من أدائه، ففي المشغوف به وحده تكمن القيمة بمتعة صافية، نقية من الشوائب، يرتشفها من احتفظ لنفسه بمساحة حرة، وأودعها شغفاً عظيماً، وصانه من الإرهاق، وجنبه قتامة الحسابات والتعقيدات.
اضافةتعليق
التعليقات