هل سمعتم باتصال أجرتهُ البشرية قبل عام 1844 وبالأخص قبل أن تُناقش فكرة التلجراف الناطق من قبل إنسونزو مانزيتي؟ سيكون الجواب بالتأكيد.. لا، فعند توجيه الأنظار إلى المبدأ المادي سيكون الاستهجانُ حليف الأجوبة، وستراعى إمكانيات القرون السالفة التي كانت للتو قد استندت على عكاز الثورة الصناعية آنذاك، فلم تكن المجتمعات تستوعب فكرة الاتصال الواسع وهي لا تزال تستجدي أقوات يومها بالمسكنة والشقاء.
في العام الحادي عشرة للهجرة وبالأخص في مسجد النبي الأكرم (صلَّ الله عليه وآله) ، كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تقف خلف حجابها وأمامها أمةُ يحملون من العقول ما تتباين فيه المدارك والمساعي، محتجةً عليهم بخطبة حملت خطوط المستقبل العريضة، فمن بين ما جاء فيها في ذكر النِعم قولها: "وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بالشُّكْرِ لاِتِّصالِها" فاستحثت مفهوم الاتصال في وقت كان أقصى مساعي القوم هي المَساَكِب والمناصب.
فقد لخصت الزهراء (عليها السلام) منهج استحصال النعم واستزادتها الذي صدح بهِ الرسول الأكرم (صلَّ الله عليه وآله) في أقوالهِ وأفعالهِ من قبل.. بكلمة (اتصال) التي كانت بوابةً تُري روّادها آفاقاً مستجدة، فالاتصال في عصرنا الحالي يُعرّفُ على أنهً عمليةً إرادية يختار فيها عنصرين أو شخصين أو جهتين الارتباط من خلال إرسال واستقبال مجموعة من المعلومات ماديّة كانت أم معنوية، فالعملية بأكملها قد لا يهم فيها حجم ونوعية المعلومات بقَدَر مسؤولية الطرفين في أدائها، وبالأخص من يستقبلُ تلك الموجات الكهرومغناطيسية ليحولها من حالتها المحسوسة إلى وجودها الملموس وهو ما يشار إليه بالحالة الفعّالة.
فتأطير الأجناس المعنوية بمدخلٍ مادي لم يُسبق أن تم طرحه في المجتمع البدوي، لهو أمر أقربُ إلى تشبيهِ الشيء باللاشيء، فلماذا عمدت الزهراء (عليها السلام) إلى إشعال فتيل الدهشة في ذلك الموقف بالذات؟ ولماذا جعلت من الشكر مفتاحاً لاستمرارية الاتصال بالمخلوق والخالق؟
إنَّ فكرة الاتصال المعنوي التي أذاعتها الزهراء (عليها السلام) في أمّة لا تنظرُ لبعضها إلا على أساس التكافؤ المادي والمجتمعي لهي أشبهُ بصفعة توقظ الغافلين وتكشف زيف المنافقين بإزاحة الستارة عن علاقتهم بالخالق التي تشكّلت طوع نواياهم، فلو نظرنا إلى مُعطيات ذلك العصر آنذاك لوجدنا أن جوهر التعامل مع النِعم الإلهية كان قائماً على الأشر والبطر إلا ما رحم ربي.. وهذا تأويل أفعالهم في وأد البنات الرُضّع وكُفران النِعمة وغيرها من الأعمال الجاهلية، فالنعم الإلهية تحتاج في المرتبة الأولى إلى الإدراك واستيعاب وجودها في محيط الإنسان، فالإدراك وإن قلّت حروفهُ فهو أشبهُ (بصدمةِ ما بعد الغيبوبة) التي يجب أن يعيشها البشر بوعيٍ مُسبق، فينظرون بعينٍ جديدة إلى كُلِّ ما تأطّر بالقِدم بِنَظَرهِم، فاستيعاب الإنسان بأن مُسلّمات حياتهِ اليومية هي ليست كذلك وأن أصغر النِعَمِ يمكن أن تُسلب بطرفة عين، يؤهله إلى المرحلة التالية من عملية الفهم وهي طلب الاستمرارية.
على سبيل المثال، لو أطفأ المظلّي شُعلة منطاده الكبير.. هل سيتوقع وصول ذلك المنطاد إلى السماء كما اعتاد أن يفعل؟.. بالطبع لا، فعند إدراكه أن ارتفاع المنطاد يرتكز على الغاز المنبعث من تلك الشعلة سيركن حينها إلى إشعالها عند كل إقلاع، هذا ما يفسره دور الشكر في استمرارية استنزال النعم السماوية.. فجذوة الزيادة تلتهب بوقود الشكر.. ولكن ما هو الشكر؟
قال الإمام الصادق (عليه السلام) :
"تمام الشكر اعتراف لسان السر خاضعًا لله تعالى بالعجز عن بلوغ أدنى شكره".
إذن فالشكر هو حالة يعيشها الإنسان بعد الإدراك، يستشعر و يعترف من خلالها أنّهُ وما ملك من الله وإلى الله وترجمان هذه الحالة هي كلمة الحمد لله، فمن عظيم رحمة الله بخلقه أنه اقتصر شُكره على كلمة الحمد التي تحملُ بين طياتها سرَّ العبودية، فهي أشبهُ بحالة الطلب والاستقبال من الله سبحانهُ وتعالى لذلك آلت الزهراء (صلوات الله عليها) بفطنتها أن تعبّر عن علاقة الشُكر بالنعم بلفظة الاتصال.
الحلقة المفقودة
في ظل هذه النعم الوافرة التي لا يبلغُ الإحصاء منها قطراً ولا يزيدها الإدراك سعةً، هل يمكن للإنسان أن يعيش فيها منفصلاُ عنها؟؟ وكيف لها أن تتجلى في حياتهِ ما لم يهيأ لها محطة الهبوط ؟؟
إن سبرنا غور التاريخ ذهاباً وإياباً سنجدُ في كل زمان ومكان أقواماً قد حُمّلوا من الأموال والبنين والقناطير المُقنطرة ثقلاً.. ما نجد لهُ فراغاً في عقائدهم وميولهم إلى خالقهم وحتى في عقولهم، فكيف للنعمة أن تظهرَ في مكان لم يستدعها وأن تُرسَلَ إلى أقوامٍ لم يكلّفوا أنفسهم عناء الطلب؟
قال تعالى:" فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ".
فتلك النعمُ هي نعمٌ ميّتة، تستدرج مُقتنيها إلى قبورها رويداً رويداً، فعندَ النظر إلى الصورة الكبيرة للحياة نُدرك أنها حُجّجٌ سماوية على من أنكر الخالق العظيم .. فالعظمة تقتضي أن تعطي.. تُمهل .. ثم تضطرهم إلى ديارهم الأخيرة..
فأن تَعيشَ مُنفصلاً عن عطايا الرب، يعني أن تُجرّد الحياة من معانيها، فالإنسان نصفهُ للمعنى ونصفهٌ للمادّة ولا قيمة للكفّة دون الأخرى إن لم يحكمهما التوازن.
اضافةتعليق
التعليقات