فرض الإسلام على الدولة حماية أفراد المجتمع الإسلامي من الفقر والعوز فهي ضامنة لمعيشة أفراد المجتمع ضماناً كاملاً. وهي في العادة تنجز هذه المهمة على مرحلتين: المرحلة الأولى، تهيء الدولة للفرد وسائل العمل، وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الإقتصادي المثمر ليعيش على أساس عمله وجهده، فإذا كان الفرد عاجزاً عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً، أو كانت الدولة في ظرف إستثنائي لا يمكنها منحه الفرصة الكاملة للعمل، هنا يأتي الدور للمرحلة الثانية والتي تمارس فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان عن طريق تهيئة المال الكافي لسد حاجات الفرد وتوفير حد خاص من المعيشة له.
فبعد أن يتحمل المجتمع مسؤوليته تقوم الدولة بسد ما تبقى من الثغرات في حياة الأفراد، فهي في الواقع متممة لعمل المجتمع في هذا النطاق.
والإمام علي عليه السلام هو رائد فكرة الضمان الإجتماعي الذي تتسع دائرته لتشمل حتى غير المسلم، فلا نجد كتاباً في الإقتصاد الإسلامي لا يذكر بتبجيل ما ذُكر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؛ أنّه مرَّ بشيخ مكفوف كبير يسأل النّاس، فقال أمير المؤمنين عليه السلام ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني، فقال الإمام: إستعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! انفقوا عليه من بيت المال.
وأقوى نص يمكن أن يكون قانوناً في الضمان الإجتماعي ما أورده الإمام أمير المؤمنين في رسالته إلى مالك الأشتر عندما ولاه ولاية مصر فقال له:
"ثمّ الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهمْ، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس، والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً، ومعتراً، وأحفظْ لله ما إستحفظك من حقه منهم واجعل لهم قِسماً من بيت مالك، وقَسْماً من غَلات صوافي الإسلامي في كل بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكُلٌ قد إسترعيت حقَّه.
ثم يقول له: "وتعهّد أهلَ اليُتم وذوي الرِّقة في السِّن ممن لا حيلة له، ولا ينصِبُ للمسألة نفسهُ، وذلك على الولاة ثقيل، والحقُ كلهُ ثقيل".
ثم يقول: "واجعل لذوي الحاجات منك قِسماً تُفرِّغ لهم فيه شَخصكَ وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقَكَ، وتُقعِدَ عنهم جُندكَ وأعوانك من أحراسك وشُرطكَ حتى يُكلمك متكلمهم غير متتعتع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: "لن تُقدّسَ أمَّةٌ لا يؤخذُ للضعيف فيها حقُهُ من القوي.. ونحِّ عنهم الضيق والأنف يَبسُطِ الله عليك بذلك أكناف رحمته ويُوجبُ لك ثواب طاعته، وأعطِ ما أعطيتَ هنيئاً وامْنَعْ في إجمال وإعذار".
فالحاكم ليس فقط هو مسؤول عن الفقراء، بل هو كالأب على رؤوسهم، يسمع حاجاتهم بكل تأنٍ، وإذا كان وجود بعض الحرس من حوله يُثير الرُعب في نفوس أصحاب الحاجات فلا ضرورة لوجودهم حينذاك حتى يجد المحتاج حريته الكافية في التعبير عما يُريد، والتحدث عما يُعانيه. نلاحظ في هذا النص عدة أمور ضرورية هي:
1- الدولة مسؤولة عن توفير سبُل الحياة الكريمة لكل من يعيش في ظل حدودها.
2- يجب إنشاء صندوق للضمان الإجتماعي يُغذي من بيت المال، ومن غلات الأنفال وبنسب تختلف حسب الظروف.
3- توزع المعونات بصورة متساوية بين القريب والبعيد.
4- هناك صنف من الفقراء لا يظهر فقرهم للناس فكان لا بد للحاكم من تعيين أشخاص يقومون بالبحث عن هؤلاء وأماكن سكناهم، حتى يتم مساعدتهم.
5- لابد للحاكم من تخصيص وقت محدد لسماع حاجات الناس، وتوفير كل الأجواء المناسبة التي تمكن أصحاب الحاجات من التصريح بحاجاتهم.
6- على الحاكم أن يتحمل الكلمات الخشنة الصادرة عن الغافلين من أصحاب الحاجة وليقدِّر ظروفهم النفسية.
7- وإذا لم يجد الحاكم صاحب الحاجة محتاجاً حقاً، فعليه أن يعتذر إليه بطريقة مؤدبة ليست فيها إثارة.
هذا النص وغيره يمثل في الواقع إنسانية النظام الإقتصادي الإسلامي، وأيضاً يمثل حالة الرُقي والرفعة في هذا النظام، فقانون الضمان الإجتماعي الذي رسخه الإمام من خلال هذا النص لا يرقى إليه أي قانون آخر في العالم.
يذكرون أنّ من مفاخر النظام الإقتصادي البريطاني هو قانون الضمان الإجتماعي الذي يعود في تاريخه إلى عهد حكومة العمال، فالمشروع في الأصل (للسير وليام بيفردج) وقد رفضه المحافظون في وقته، وجاءت حكومة العمال فاتخذته أساساً لسياستها الإجتماعية القومية، ويقوم هذا المشروع على دعائم ثلاث للتأمين الإجتماعي هي:
1- منح نقود للوالدين عن كل طفل.
2- نظام شامل للتأمين الصحي.
3- إعانة المتعطلين.
وعندما نقارن بين هذا المشروع وقانون الضمان الإجتماعي الذي يتضمن برنامجاً للتأهيل للعمل نجد أنّ ما قام به الإسلام قبل خمسة عشر قرناً هو أفضل بكثير مما قامت به أعرق الأنظمة الإقتصادية في العالم الحر – في مجال الضمان الإجتماعي.
اضافةتعليق
التعليقات