كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا، وأنا جالس على حافة أحزاني أعدد خيبات عمري التي عشتها، خيبة كبيرة من أحد أفراد العائلة، خسارة مبلغ ضخم في مشروع فاشل، فقدان أخي التوأم في حادث مروع، وثلاث خطبات انتهت بالفسخ لأسباب كبيرة، هكذا كنت أمشط عقارب الساعة وهي تتجه نحو الرقم الواحد.
ذكريات شنيعة غرست مخالبها في عقلي وبدأت تجر بأظفارها كي تزيد عليّ الوجع، كم تمنيت لو أنام وأصحى دون شيء يذكرني بالماضي، فقط لو كان بإمكاننا أن نتخلى عما حدث.. فقط لو نعيش بلا ذكريات..
كانت أمنيتي غايتها الوحيدة نسيان الوجع دون التفكير بماهيته، غفوت وأنا أردد على لسان بالي هذا السؤال، (ماذا لو عاش الإنسان بلا ذكريات)؟
استيقظت في اليوم التالي وكأن السؤال بقي يجول في عقلي الباطني وحده ويبحث عن الجواب بينما خلدت أنا إلى النوم، وعندما فتحت عيني بقي يذكرني بما طرحت عليه في الليلة السابقة.
بقيت أجامله هاربة من أي شيء يذكرني بليلة البارحة اتجهت إلى المطبخ لأسكب شيئا من الشاي الذي صنعته أمي، حملت الإناء فكان حارا جدا شعرت بالسخونة تلسع يدي تركت الإناء وبحثت عن شيء عازل أمسك به كي لا تحترق يدي مرة أخرى..
وبينما أنا أسكب الشاي اشتعلت فوق رأسي فكرة مثل تلك اللمبة الصفراء التي تشتعل فوق رأس توم وجيري.
قلت مع نفسي لو لامست الإناء الحار في المرة الأولى واحترقت يدي ولم أكن أمتلك الذكريات ومحا عقلي كل شيء حصل معي، لما التجأت إلى عازل أحمل به الإناء، ولنسي عقلي الإحتراقة الأولى وجعلني أحمل الإناء مرة ثانية وأحترق، ثم أحمله مرة ثالثة وأحترق، ثم مرة رابعة واحترق هكذا..
إذن الذكريات هي عطايا إلهية وسلوكا نفسيا قبل أن تكون سلوكا عقليا، فالأحداث التي يخزنها العقل هي التي تحمينا من الضرر، فاحتراق اليد هو بالتأكيد أمر سيئ يحدث لنا ولكن الأمر الجيد هي ما تفعله الذكريات معنا والتي بدورها تحمينا من الاحتراق ثانيةً.
ثم تذكرت خيانة صديق قديم لي، وقلت مع نفسي لو لم تكن الذكريات موجودة في حياتي لنسيت بأنه غدرني ولوثقت به مرة أخرى ولم انتفع من التجربة ولنسيت أن أكون أكثر حرصا في انتخاب أصدقائي وتحديد مستوى علاقاتي معهم..
إذن غدر الصديق كان نقمة علي، والذكريات هي النعمة التي حمتني من التعرض إلى الخيانة على يده، أو مع أي شخص آخر في هذ الكون، فقد أصبحت أكثر تجربة من السابق وعرفت كيف أضع الحدود المناسبة بيني وبين الأصدقاء.
وكذلك الأمر مع الفشل في المشاريع التجارية أو حتى في الزواج وانتخاب شريك الحياة، أو أي تجربة سيئة نعيشها في الحياة، فالذكريات تضمن لنا الاحتفاظ بصور الآلام كي لا نسقط في بئرها مرة أخرى ونذوق من طعمها المر مرة أخرى، إنها بمثابة طوق نجاة لنا في هذه الحياة.
لو دققنا أكثر لوجدنا كم هي دقيقة هندسة الله لمنظومة الإنسان العقلية، بل هو أرحم علينا من أنفسنا وأعلم منا بقدرة تحملنا فهو لا يكلف الإنسان إلاّ بقدر سعته، وسخر لنا الذاكرة حتى تذكرنا وتحمينا من السوء، ولكن هل هذا القدر كافي بأن نحمي أنفسنا من خيانة صديق ولسعة الإناء وانتخاب الزوج؟
ماذا عن تلك الكلمات القرآنية التي تذكرنا بما سيحصل لنا بعد ارتكاب المعاصي؟، أليست كفيلة بأن تحمينا من لسعة الآخرة؟
سأترك هذه الأسئلة تجول في عقولكم مثلي حتى أسمح للمبة توم جيري تضيئ فوق رؤوسكم.
اضافةتعليق
التعليقات