شيبةٌ وقورة وجسدٌ لم ينطفئ بداخلهِ بريقُ الرّوح، يتكئُ على عكّازة الزَّمن، اخذت منه الدّنيا مأخذاً لكنّه ما زالَ يقاومُ كدماتَها بصبرِ وبصيرة، لم يكترث لشيء، كلّما جارت عليه الأيّام يذكّر نفسه بقوله تعالى: ((يا أيُّها العزيز مسنا وأهلنا الضر)).
ويواصل مسيرتهِ لأنّ كل ما عندهِ من الله ولا يفعلُ شيئاً إلا لله، عمّر قلبَه بالإيمان، ومضى يشقُّ طريقَه في دارِ الشّقاء، وما زالت الحياة تسلبُ منه الحياة، خرجَ من دارهِ الّتي لا يملكُ سوى مقوّمات الحياة سواها، قاصداً ذلك (المسطر)، أتعبهُ الزمن وجرّد من عينيهِ الحياة يجرُّ أذيالهُ ووجه ملأه الحياء، يكلُّله الحزن. تحطّم بداخلهِ الفرح كتحطّم زجاجةٌ على أرضٍ صلدةٍ لكنّ قلبه مازال ينبضُ بالأمل، كإشراقةِ صباح ٍفي ليلٍ مظلمٍ.
طال طريقَه وأخذ يحدّثُ نفسه، والهمُ يشغله، راحت خطواته تسابق بعضها بعضاً لكنّه في الواقع يسابقُ زمنَه البائس الّذي رماه على قارعةِ الطّريق من دون شفقةٍ ولا رحمةٍ، وكلّفه حملُ صغيرين لم يبصرا من الدّنيا شيء سوى أنّهم اعتادا أن يغفيا بين أحضانه، يقبّلُ هذا ويداعبُ ذاك بابتسامةٌ لم تفارق محيّاه المصفّر، ويطعمهما بكلتا يديّه المرتجفتين، اللتين طالما رُفعتا إلى السماء بدعوةٍ لا ترد؛ لكنّ هناك من يُرجِعها فارغة من دون استحياء من خالقها.
يا له من واقعٍ مرير، يستلذّ بمعاناة المستضعفين..
جلس بين صفوف الرجال الّتي امتدّت حتى الفرع الرئيسي، لفحت الشمس رأسه الّذي أبى أن تنزله الدنيّا وتذله لسؤالهِا، حتى تصاعد بخار جسده وأخذ يحترق كاحتراق الوقود وهو ينتظر من يأتي ليأخذه إلى العمل، حتّى يستطيعَ أن يؤمّن مبلغاً يوميّاً لا يسمنُ من جوع، ولكنّه يسدُ رمقاً، حتّى تلاشى حلمه. راح ينظرُ إلى رئيس العمل الذي ركن سيّارتهِ جانباً ليلتقط من يريدهم كالتقاط العصفور للحبة، ويشاهد دويّهم الذي ارتفع كدويّ نحلٍ وهم يصارعون من أجل البقاء، فاجتمع عليه الشباب هذا يحدّثه، وذاك يشكو إليه مرض والدته، وآخر يريد أن يؤمّن مبلغاً من أجل دراسته، كلٌّ له همٌ بالرغم من صغر سنّه إلاّ أنّه يصارع من أجل البقاء. حتّى صكّ نداء رئيس العمل مسامعه قائلا وهو ينظرُ إلى الرجل الوقور، كأنّه يريد أن يقول له عذراًّ أيّها الشيخ الكبير لا مكان لكَ بينهم؛ لكونك لا تقدر على العمل:
"اصعدوا أيّها الشباب لدينا عملٌ شاق لا يقوى عليه إلا أنتم"
تقدّم بشيبته وأخذه إلى جانب آخر؛ كي لا يسمعَ الآخرين ذلك الحديث الذي يصمُّ الدنيا بما رحُبت وأخذَ يحاوره بلسانِ والدٍ يريد أن يطلبَ من ولده أمرا، وملأ الحزن عينيه الضعيفتين اللتين تكادانِ لا تريان النور وأمسك يده قائلا:
"بنيّ هلاّ أمنتَ لي عمل معهم؟ّ!"
أجابه: "يا عم، عذرا لا تنفعنا بشيء"
وسحب يده من بين تلك الأنامل الراجفة المجعّدة التي أتعبها العمل، وغادر المكان غير مكترثٍ لتلك الشيبة وتلك الهيئة.
أخذ يردد ((لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم)) وعاد إلى ذلك المنزل، في رأسه تدور كلمات حزينة:
أيّ شيء أطعمهما؟
ماذا أقول لهما؟
نظر إلى صغيريّه اللذين اعتادا على أن يبيتا ببطنٍ جائعٍ يتلهى بشيءٍ يسير من الزاد وراح يرمقهم بنظراتٍ حزينة فيها كلمات اعتذار لا يستطيع أن يبوح لهم بها حتى لا يعلموا مرارة الدنّيا، وانسابت دموعه على وجنتيّهِ، واخذهما كعادته يقبّل هذا ويداعب ذاك ثمَّ أخذ يتكئ على حائط الهموم لا على جدار الحجرة، وينظر إليهم كأنّهما قناديل مضيئة.
تراءت أمام ناظريّه تلك الصورة، وجالت في مخيلته الأفكار التي رسمت حزن ذلك الشاب الهمام الشجاع الذي التحق بركب الإباء تاركاً خلفه زوجة أثكلها الحزن وما أسرع لحاقها به، وهي تقول لا تتركوني لهمَّ الدنيا وغمّها من دون والٍ ولا معين، ويقلّب ذكرياته بين حسرةٍ ودمعةٍ أعياه التعب وهمَّ إلى ذلك الفراش الرّث وتلك الوسادة التي كادت تتساوى بالأرض، ليسلم نفسه لنومٍ عميق، يريح به ذلك الجسد المرهق من فرط التعب، ثم يأخذه بدوره إلى ذلك الزمان البعيد، إلى رحلة تنسيه تلك المعاناة ليشعر بالراحة ولو في أحلامه.
ولم يعلم أنّه سيلتقي برجلٍ ينهي له كلّ تلك المعاناة، ليعيد له بعض حقوقه ويعوضه عن الحرمان بالراحة والاطمئنان، أٌخذَ إلى ذلك المكان الذي وقف فيه صباحاً ليرى في الجانب الآخر شخصاً ينظر إلى كلّ ما حدث وواصل ذلك حتّى لحظة انفصاله عن عالم الحقيقة إلى عالم الرؤيا حيّثُ طرق فيه باب الدار ليفتح لرجلٍ وجدت عليه سمات الهيبة والوقار ووجهٍ ارتسمتْ عليه ملامح الحزن وانجذبَ ليديْه اللتين فيهما آثار من تلك الرحى، كلّ شيء عاجز عن وصفه؛ ويمدّ يديه بما أنعم الله عليه وأكرم ثمَّ يرتحل ليترك الرجل في دوامة السؤال:
"من هذا الذي تبدو ملامحه كأحد من آل البيت؟ هل هذا عليّ؟ أم الحسين؟ أم علي بن الحسين؟ كلّهم كانوا يطرقون الأبواب، ويطعمون الطعام، حتى حفرت الآثار على ظهورهم"، لكنّه أخذ يراجع صفاتهم من واقع الحقيقة، وتذّكر امامنا المهدي المنتظر فلطم وجهه وسالت دموعه، حتى أفاق على صوت الأذان الذي ملأ الخافقين. وتوجّه بقلبٍ خاشعٍ إلى الذي فطره ليفطر برغيف خبزٍ يسدُّ به رمقه ويرتحل إلى ذلك المكان كعادته، ولم يعلم أن اليوم ليس كالأمس ويواصل طريقه فيصل إلى أنه لا يجد أحداً تعجّب من الأمر، ووقف ينتظر مجيء أحدهم علّه يصحبه إلى عمل ما لكنّه يفاجأ بشابٍ ما نزل من موقف سيّارته متوجهاً نحوه سائلا إياه. "يا عم هل لك حاجة؟"
أجابه: "أنا منتظر أحدهم يأتي فيصحبني إلى العمل".
تعجّب الشاب من جوابه، وسأله:
"هل مثل سنك يعمل؟
"بلى، من جارت عليه دنيّاه يعمل كل ما بوسعه"
وانتظر طويلا لكن دون جدوى رجع وأيّة رجعةٍ.
لقد ذهب الشاب لكنّه أخذ يتحسس موقعه ورافقه إلى منزله دون أن يشعر به وتعجّب من ذلك المكان وعيش ذلك الرجل وتوجّه إلى أقرب مركز للتسوق ليحمل له كلّ شيء، وطرق الباب وهمَّ بفتحه ليجد ما لم يكن في الحسبان من أكياس الرز والدقيق والشاي وقناني الزيت... الخ التي وضعها شخص ما من دون أن يراه أحد، فغمره الفرح، وملأت قلبه السعادة، وبدأ يبحث عن من وضعها ولم يرَ أحداً، من فعل هذا؟
أحقاً ذلك الرجل الذي رأيته في المنام أم غيره؟
لمَ لا أراه؟
أخذ يسحب الأكياس إلى مكانها المخصص ويتفحصها وهو لا يصدّق ما تراه عيناه وتذكّر تلك الرؤيا وذلك الرجل الذي رآه في المنام ما أشبه رؤيا البارحة بواقع اليوم وهو يردّد ما زال عليّ بن أبي طالب بيننا وما زال نهج الحسين حيّا في ضمائرنا وما زالت آثار تربية المنتظر شاهدة عليها أفعال شيعته ومحبيه.
إلى الجانب الآخر من الظلام هناك النور الذي نستمدّ منه الحياة "نور أهل البيت عليهم السلام وبركة عطائهم وسيبقى ممتداً إلى يوم القيامة.
اضافةتعليق
التعليقات