حبيسة الدار لأيام، لأسابيع، لأشهر، إلى متى لا ندري..؟؟
منذ ذكرى ولادتك الميمونة في رجب وحتى ذكرى شهادتك يا علي قد غلل الحجر الصحي جسدي، ووضع بيني وبين أحبتي أسواراً من أحجار..
أما روحي فقد حلّقت لمسافات زمنية ومكانية لا يطيقها الجسد..
الزمان.. إنّها ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، هنالك وجدتُ نفسي على أرض لطالما عشقتها..
أشمّ عبقها مع كلّ حبة من رمالها، احتفيت، تمثلت كليم الله موسى حين خاطبه الباري:
فاخلع نعليك إنّك بالوادي المقدس طوى..
وبقيتُ محتفية، وكلّما علقت الرمال بقدمي شعرت أنّ التاريخ يفوح من تلك الرمال..
عبق عظيم مع كلّ خطوة.. ومشيتُ بين سكك ضيقة ودور ملتصقة..
تزاحمت بسقوف هابطة وأخرى مرتفعة، تتسع السكك أو تضيق..
مررت بجامع كبير قد تُركت فيه ومضة سراج تُضيء الطريق للسالك في ظلام الليل، فهذه أولى ليالي القدر العظام، وليلة شهادة أمير المؤمنين..
ليلة أردى فيها أشقى الأشقياء علياً..
لكني لم دخل.. لمَ لمْ أدخل؟؟
لا أدري!!
إنّه جامع الكوفة وهناك منبر عظيم لأمير المؤمنين علي، لطالما عشقته وأحببت الصلاة عنده في زياراتي التي لم تتكرر كثيراً.. لكنّي لم أدخل.. لمَ لمْ أدخل؟؟
لاأدري!!
وامتدت خطواتي وقد ازداد التراب تغلغلاً فيها حتى بلغ أخاديد أصابعي، وأنا مازلت أشمّ رائحة عبقة، معتقة، قدم الزمان، بل أكثر..
منذ زمن نوح وانفجار الطوفان، ثم ابتلاعه من حيث فار التنور.. ممتدة إلى كلّ الأنبياء، بل الأولياء، فما من نبي إلا وله في هذه الأرض أثر، وفي مسجدها محراب صلاة، وعبادة ودعوة، وذكريات تطول، أطلس التاريخ هنا، جغرافية الرسالات..
إنّها الكوفة.. نبع التاريخ وفيض القادم، بوابة قدسية بين الماضي السحيق والمستقبل البعيد، ومحطة الحاضر حيث تلتبس الفتن وتتناحر الأحزاب، وتصطفق النظريات ومحط الخدع والمناورات..
إنّها الكوفة مدينة الامام الغائب ومبتغاه عج.. حيث يظهر مسجده الذي يقصده الملايين ومحرابه الأعظم، وعصب مملكة آل ابراهيم العظمى..
تساءلتُ مستغربة:
أحقاً هي الكوفة!!؟؟
نعم..
رائحة العشق تدلّني..
لكنّي إلى أين أقصد؟؟
وجدتني أدخل زقاقاً.. أسمع فيه رفيف أملاك، وحسيس تلاوات، ورتيل من الصافات والمسبحات.. أنفاس قدسية أشعر بها تلامس ذرّات الهواء..
أقف عند باب أجده موارباً..
لعلّه باب علي..
بل هو باب علي..
لم يفتح ولم يغلق..
لم يشرّع و لم يوصد...
لمِ ترك موارباً..؟؟؟
لأنّها ليلة القدر.. ليلة ترسم فيها الأقدار ويعاد فيها كتابة المستقبل والآجال فكيف يوصد باب علي؟؟
إنّه باب السماء مفتوح لكلّ تغيير في الأقدار..
أسمع صوتاً عشقته منذ عالم الطينة، طينتي التي خلقتُ منها تخاطبني من أعماق وجداني..
قلبي يقفز من قفصه.. ماهذا الصوت؟؟
هل هو صوت سلطان الكوفة؟؟
بل سلطان البشر بعد المصطفى؟؟ إنَه أمير المؤمنين عليّ؟!
له تسبيح وتقديس..
له تهليل وتكبير..
له حوقلات واسترجاع..
كدت أصرخ ياعلي، لكن صرختي لم تجرؤ أن تغادر حلقي..
اكتفيت بدموع سحت بلا توقف، ونشيج يصل ساحته القدسية أو هكذا تخيلت، راقبته من شقّ الباب..
مابه؟؟
لم عليٌ قلق!؟
لم يحوقل؟؟
لمَ يسترجع؟؟
لمَ يراقب السماء مرة بعد أخرى؟؟
صار نشيجي عويلاً..
إنّه عليٌ يطالع النجوم ويراقب العلامات يعلوه القلق..
وابنته الجليلة تراقب معه في وجل..
دفعت الباب قليلاً بلا شعور.. غمرني النور.. لم أره، لكني أخذت بنوره..
صحتُ مولاي يا علي..
أقلقٌ من الموت يامولاي؟؟
ومتى كان عليٌ يرهب الموت!؟
وما الموت عند علي؟؟
وهل مثل علي يحدّ وجوده الموت؟؟
هل نتصور أنّ علياً يقلقه الموت؟؟
رأيتك مولاي تنظر حيث أقف أنا مغمورة بنورك، ويزداد منك القلق..
خاطبتك مولاي.. ماالذي رأيته في تلك النجوم؟؟
أعلم ياسيدي أنّ قلقك علينا..
شيعتك القادمون في آخر الزمان..
حيث تطول الغيبة بقائمكم، ويكون الزمان حندساً من الظلم والظلامات..
شيعتك القادمون في آخر الزمان..
هل هم بمستوى الابتلاءات؟؟
أم يتيهون فيها أربعين سنة كما تاه بنو اسرائيل عن الأرض المقدسة..!!
أخبرني مولاي يا علي..
فقد تعبنا وكبرنا وهرمنا..
وضاقت بنا السبل وأخذتنا الفتن يميناً وشمالاً..
أتعبنا الانتظار ولاندري هل نحسن صنعاً أم نكون من الأخسرين أعمالاً!!
نحن أيتامك ياعلي..
ياعلي..
تحملنا كلّ ماجرى عبر التاريخ، تجرّعنا الغصص والآهات، شربنا الويلات، ولعقنا مرارة الصبر ولوعة الانتظار.. وليكن.
لكن يا علي..
غصّة هذا العام لاتحتمل
هذه سنة تشجينا، تقتلنا، تجتث بقايا آمالنا..!!
ماالذي جنيناه كيّ نحرم صرخة ياعلي؟؟
ماالذي جنيناه كيّ نصمّ عن صرخة جبرائيل وهو ينادي- تهدمت والله أركان الهدى - ؟؟
ياعليّ..
حسينياتنا مقفلة..
مساجدنا معطلة..
منابرنا مظلمة..
صرخاتنا مكتومة..
ليلة القدر باكية..
هل جرنا على الزمان أم جار الزمان علينا؟؟
أيرضيك مانحن فيه ياعلي؟؟
واذا كان جبريل قد أسمع صوته الناس ليلتها صائحاً - تهدمت والله أركان الهدى- فهل تغيب عنا تلك الصرخة؟؟
وغادر المولى عليٌّ الدار حيث تعلّق مئزره بالباب وتعلّقت أنا بخيط من ذلك المئزر لعلّه يكون خيط نور في حالك الظلام..
وسرعان ما عدتُ إلى عالمي المحجور، وأنا وجلة أبحث عن خيط النور فلا أجده، وقسوة السؤال تهاجمني..
- أعن رضا منهم حجرنا أم حجرتنا الذنوب دونهم والآثام؟؟!!
وهل بالإمكان تغيير ماكان وإعادة رسم الأقدار؟؟!!
فباب علي مازال موارباً!!
بل هو مفتوح للمخلصين في كلّ آن..
ادخلوها بسلام آمنين..
يا باب حطة وفدنا ساجدين..
ومازلنا نرتجي فرجاً..
حنانيك ياعلي..
أيتامٌ بين راحتيك..
فجد علينا مسحة الأبوة..
اضافةتعليق
التعليقات