تبحر إلى عالم بين الواقع والخيال، وأنت تتصفح طيات كتاب الدكتور حسن الكحلاني "الفردانية في الفكر الفلسفي المعاصر"، إن الأزمات التي يمر بها الإنسان تفقده إحساسه بالمستقبل ويزداد شعوره بالضياع، يسبب ذلك تولد أفكار سلبية جديدة تشعره بضرورة الانعزال واللجوء الى التعامل بالسلوك الفرداني.
لكل ظرف فلسفة خاصة، لخص ذلك الكحلاني بأربعة مدارس رئيسية: فلسفة الحياة، الفلسفة البراغماتية، الفلسفة الوجودية، والفلسفة الشخصانية، اذ تشترك فلسفة الحياة مع البرغماتية برؤية واحدة تمثل الإرادة والانفعالات التي يمر بها الإنسان.
وتفسر الوجودية علاقة الفرد مع الاخرين والاغتراب النفسي الذي يعيشه، فيما رفضت الشخصانية النزعتين الفردانية والجماعية، وانتقدت تجاهل الوجودية للاعتقاد الديني وغلبة التشاؤم عليها فيما يخص العلاقات الإنسانية وعدم إمكانية وجود قيم مشتركة بين الناس، ودعت الشخصانية إلى إيجاد ثورة سياسية اجتماعية وفكرية لتأكيد مكانة الشخص الفاعل والمنفتح على الآخرين حيث تعطي الشخصانية الأولوية لجهة حل المشاكل الاجتماعية.
العضوية-الحياة-التفكير
الدكتور الكحلاني يقول: ان المجتمع ينشأ من مجموعة سلوكيات فردية يمكن تحسينها لإحداث التغيير الايجابي في تغيير نمطية الحياة العامة، ويؤكد ان العضوية، الحياة، التفكير، الشروط الواجب توفرها في كل إنسان ليصبح فرد في المجتمع وإلا تنتفي صفة الفرد عنه، إذ ليس للحياة معنى، إن وقفنا نتفرج على انقسام بين الذات والموضوع، إن لم نتقدم نحو العامل المشترك الأكبر لحياة الإنسان، حريته، كرامته، مشاعره، عواطفه، معتقداته وذاته، وبين العامل المشترك الأصغر؛ المجتمع وقيمه، الإنسان هو قيم وذات وموضوع وليس أكل وشرب وحياة مادية.
الإيمان بالآخر مهما كان دينه ولونه وشكله هو مفتاح تطور الذات الإنسانية، التعدد والتنوع، الانتقال من الأنا الى النحن/الشخص، ليس عن طريق النظريات ورفع الشعارات الآنية والوقتية والتنظيرات بل الانتقال من النظرية إلى التطبيق العملي.
إذ أن العمل الجماعي هو الذي يخلق الإبداع لدى الفرد في المجموعة والآخرين، لأن كل شخص سيفهم نفسه ويحدد أهدافه وهي أهم مرحلة من مراحل بناء الذات المجتمعية، وبالتالي سيفهم الآخرين.
الحرية والحقوق الفردية
إن هذان العاملان هما اللذان يحددان القيمة المعنوية للفرد، لأن الاشخاص الفردانيين يولون أهمية كبيرة جدا للأهداف والرغبات الشخصية، هذا ما أكدته الاستشارية الأسرية ضحى العوادي من مركز الإرشاد الأسري في العتبة الحسينية المقدسة" أن تحقيق استقلاله الذاتي وتقديم مصالحه على المجتمع من أهم صفات الأشخاص الذي يحملون صفة البينذاتية، اذ نلاحظ انتشار هذه الصفة في المجتمعات العربية وبالأخص المجتمع العراقي متأثرين بالغرب نتيجة الانفتاح السلبي، والاستخدام الغير موجه للالكترونيات الحديثة".
وبينت العوادي"أن الصفات الشخصية معدية من فرد لآخر، حتى وان كان الآخر كائن وهمي أو افتراضي، إذ إننا نلاحظ الأفلام التي يتم عرضها الآن والمسلسلات وحتى الأفلام الكارتونية، هناك شخصية تحمل صفة البطل تمتلك كل أدوات القوة الخارقة للإنقاذ أو التدمير، ومن هنا ازدادت نسب أعداد الفردانيين متأثرين بكل تلك السلوكيات المادية والمعنوية بوجود بيئة قابلة للتغيير".
الرغبة في التميز
إن تعطش الذات البشرية للتميز والتفوق على الآخر هي من كونت بداية لفكرة الانفراد بالسلوك، الاستشارية الأسرية علياء الصافي أوضحت "العيش مع الاخر هي عملية بناء علاقات متواصلة حيث تزيل تلك البينذاتية السلبيات التي تمسني وتبني مكانها آفاقا جديدة ورؤية جديدة بالتفاهم والاتصال بالآخر.
فإذا كان هذا الآخر هو الأنا عينه كمرآة تحدد وعيَ بذاتي واكتسب عن طريقها مجالا جديدا يسمى "البينذاتية"، لكن هذا الوجود مهما كانت درجة كماله واكتماله إلا انه يبقى منقوص بحاجته إلى مكمل خارجي وهو علاقته بالآخر الغير، فالوجود للذات هو وجود منقوص يظل بحاجة إلى الآخر ليتوازن.
وتؤكد الصافي "أن بإمكاننا التحرر من سطوة الآخر لكن ليس بالانعزال، وممارسة الحقوق كاملة وأداء الواجبات كذلك، هذا يعني إننا بحاجة إلى وعي وإدراك ثقافي عال جدا لنفرق بين التفرد السلوكي والاندماج المحدود، ومعرفة كيفية إدارة رغبات الذات.
إذا كانت البينذاتية هي صراع تخوضه الانا ضد نفسه، من اجل الاعتراف بوجود انا في صورة آخر، لأن الأنا في دلالته الوجودية جوهر مفكر وكيان تحدده طبيعته الإنسانية، اذ يجب أن انتقل من كونيته الى ذاتيته وان نخوض بالمنطق صراع الى حد الموت، لأن في ذاتيتي وآنيتي فكر آخر يقاسمني الهم الإنساني المشترك.
الذكاء الذاتي
إن الاهتمام بالرغبات الشخصية والميول الذاتية يمكن أن يكون لها منحى ايجابي إذا ما استثمرها الفرد بالطريقة الصحيحة، إذ يمكن زيادة الذكاء الذاتي، أو المعرفة الذاتية، يمكن من خلاله تطوير إيجابي في كل جانب من الحياة، متضمناً العلاقات مع الآخرين، المستقبل المهني، والصحة العقلية والجسدية.
يؤكد خبراء التنمية أن تقبل النفس كما هي، تعد النقطة المحورية في بناء علاقة ايجابية مع الذات وبالتالي مع الاخر، وجاء في دراسة نشرتها أكاديمية نيورنت السويدية المتخصصة في التنمية والإبداع "إن الاحتفاظ باليوميات أو المذكرات يشكل وسيلة عظيمة لتزيد من القدرات التأملية وتطور الذكـاء الذاتي.
بينما قد تكون عملية تدوين أفكارك ومشاعرك هذه هي علاجاً قوياً بحد ذاتها، فإن قراءة ما تدونه وانعكاسها على الأفكار التي اخترت تدوينها تسمح بأكبر فرصة للتأمل الذاتي، بالرغم من أن العديد من الأشخاص قد تحولوا تجاه المواقع إلكترونية الشخصية في العصر الرقمي كوسيلة لتدوين اليوميات، فإن الكتابة في هكذا منتديات عامة تجعلك تميل لزيادة المحظورات وبالتالي لا تساعدك في التأمل ”الذاتي” الصحيح.
صراع بين الأنا والغير
هناك الكثير من الأمور التي يفكر بها الفرد قبل أن يتخذ القرار لينعزل بشخصيته ويكون علاقة بينذاتية، فإن السطحية التي يعيشها العالم اليوم هي احد اهم الاسباب التي تؤدي بتلك الشخصيات التي لا تزال تبحث عن العمق في التفكير والتحليل والاستنتاجات والصدق في القول والفعل الى الانعزال أو الانطواء على الذات.
احمد طارق طالب جامعي يقول: إن الشباب اليوم لا تجده يبحث عن النهايات الحقيقية للعلاقات، وإنما هناك وقتية في التعامل، على سبيل المثال أن طلاب الجامعة اليوم يرون الطالب المجد والذي يسأل كثيرا الأستاذ ويبحث عن المحاضرات في وقتها وملتزم في أوقات الحضور والانصراف بأنه يعقد الأمور أو انه يبالغ في الدراسة.
بالمقابل إن هذا الطالب يجد هؤلاء الشباب عشوائيين وغير مهتمين لأمر المستقبل وتحقيق الهدف من الوجود داخل الحرم الجامعي، هذا التضارب في الرؤى سيخلق فجوة ويؤدي الى عزل الطالب الذي رسم لنفسه خط معين ولا يريد ان ينحرف عنه، عانيت من هذه المشكلة كثيرا عندما كنت أدرس الهندسة في جامعة بغداد مما اضطرني الى ان اكون في القسم الداخلي في غرفة لوحدي.
إلا ان علي ناصر يعيش الانقطاع التام عن المجتمع لأسباب هو يراها مهمة وتراها عائلته غير مهمة، يقول علي: كنت في معهد التقني الطبي في الكوفة عندما بدأت الابتعاد شيئا فشيئا عن المجتمع، والدي كان كثيرا ما يعدني بأشياء كنت أبني مستقبلا كبيرا على أساسها، ما أن تخرجت من الإعدادية حتى تحولت تلك الوعود الى أحلام يصعب تحقيقها.
تركني في منتصف الطريق اعاني دون أي اساس للاعتماد على النفس، لم يكن يسمع لأحد، دخلت الى المعهد في ظروف مادية ونفسية صعبة جدا، حاولت ان اخرج منها بطرائق مختلفة إلا ان الأمر لم ينجح، وبدأت افقد الثقة بكل من حولي، ساءت بعدها الظروف اكثر واكثر الى ان وصل الأمر وبعد تحرجي استأجرت منزلا.
وها انا اليوم ادخل السنة السابعة أعيش منفردا ولا املك الثقة بأي شخصية، بسبب تلك التراكمات التي لا تزال عالقة في ذهني، كونت صورة نمطية عن الجميع بأنهم غير اوفياء وغير مجدي العيش معهم.
إلا ان اصدقاء احمد و والد علي يجدون المشكلة فيهما معتمدين بذلك على رأي الاغلب والحياة العامة التي يعيشونها بسطحية تامة.
بينت اسباب هذا السلوك فاطمة عبد الاله/ اختصاص في السلوك والتربية من القاهرة "ان هناك أشخاص أصبحوا منعزلين نتيجة لمواقف اجتماعية معينة.
يأتي على رأسها توبيخ العائلة للأولاد أكثر من مرة أمام الناس مما تسبب في حالة من الحرج للولد فأصبح خائف من تكرار المحاولة، واستمرار بعض الآباء في هذه التصرفات حتى عمر الشباب مع ابنائهم.
خلفت تراكمات نفسية سلبية، بالإضافة إلى إنغلاق بعض الأسر على نفسها، وعدم اختلاطهم بالناس حيث يساهم ذلك بشكل أساسي في أن يكون الفرد غير اجتماعي، وهذا يؤكد الفلسفة البرغماتية وفلسفة الحياة التي جاء بها الدكتور الكحلاني في كتابه المذكور انفا.
اضافةتعليق
التعليقات