فكرة الصراع التي تتآكل فيها جدران روحك بهدوء دون أن يدركها الغيـر او حتى يلاحظها هي أشبه بالموت المفاجىء حين يُداهمكَ دون أنَّ تكون مُستعداً لهذا الضيف، الفرق بينهما أن الأخير لا يمكنك فيه التعويض وأدراك ما فات ولا حتى الشعور بالندم!
تعتريك محطات في عمرك تكون حبيساً لشيء ما، يلتفُ حول يديك بكل قوته الممكنة حتى تتصاغر أمامه حيلتك فيُصير هذا العالم الرحب بكل موجوداته الى زنزانة ظلماء تضيقُ عليك وتضيق حتى تحسبُ أن لا فرج بها، تعجبُ كيف لهذا الكون الذي سخره الله لك وجعل موجوداته طوع إرادتك يتحول لسجن مُتنقل تُحبس فيه الأنفاس ويتساوى فيه الليل مع النهار، بل الأعجب كيف لهذا الكائن (انت) أن يغدو أسيراً رهيناً له من الأستسلام ما يجعله أداة تتحرك وتُمارس ما عليها دون الإحساس بأدنى مراتب الأحاسيس، ثم ما تلبثُ أن يقفزُ في أعلى رأسك سؤال تحاول به أن تُخادع السجًَّان وتفك فيه سلاسلك طالباً حريتكَ المنشودة؟
هل أنا وحدي من يُسجن في هذا السجن ام معي سُجناء آخرين؟
وهل هناك من يُسجن بسجن مغاير لسجني؟
وهل هناك من يعيش بسجن أكثر قسوة من سجني!!
وما تلبث أن تسمع الاصوات المُكبلة بالصراخ تلفحك من كل صوب! تُشتتكَ فتجعلك تُعيد ترتيب أفكارك وتنفضُ عنها غبار اليأس الذي كان يربتُ على أكتافها..
فهناك من هو سجينُ لشهوته تراه يلهثُ وراء المغُريات فيقع في شباكها، تغريه المحرمات بكل صنوفها فلا يقدر على المقاومة لضعف تلك الشُعلة التي جعلها تخفتُ فيه، يموتُ داخله ذلك الصوت الحارس الذي أيقظ (بشر الحافي) وجعله ينتفض على سجَّانه فيعلنها ثورة كُبرى تجعله (عبداً مُطيعاً) بعد ما أشعلت جذوة (هل صاحب البيت حرٌّ أم عبد؟
قالت متعجّبة: بل حرّ!
فقال: صدقتِ لو كان عبداً لخاف سيّده!) الإنتفاضة في كوامن ذاته!
وآخرُ من يقع حبيساً لأهواء الناس فتراه يسمع هذا ويرتمي على سواحل ذاك! يستجدي رضاهم فلا يناله منهم غير النصب والخُسران مُتناسياً أن رضاهم غاية لا تُدرك فيخسر الذي يجب أنَّ لا يُترك!
تراه مُتقلب الحال مرة في سرور ورخاء وأُخرى في شدة وعناء لا يملكُ من نفسه ما يُقومَّها فيُحررها من سجنَّهم لا لشيء الا لأنه لا يملكُ زمامها فيرمي بها في ميدان تقلبات البشر وإختلافاتهم التي لا يسلمُ منها أحداً ولو أنه تدبَّر قليلاً في قول سجين الحق والإنسانية حين قال لهشام إبن الحكم: لو كان في يدك جوزة وقال الناس في (يدك) لؤلؤة ما كان ينفعك وانت تعلم إنَّها جوزة. ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس: إنَّها جوزة ماضرَّك وأنت تعلم إنها لؤلؤة! لعَلم أنَّ نفسه لا أحد يعلم خباياها غُيره ولا أحد يستطيع أن يدير دفة أمورها سواه..
فماضرك بقول فُلان من الناس وانت على نفسك رقيب وليس لك الا سعيك!
وذاك الذي مازال يأنُ من فرط غضبه وما يتكبَّده من عناء الخسران حتى يُلقى عليه القبض ويُزجُ فيه في سجن الندم مُعلناً انه مُتهم بتهمة عدم قدرته في التحكم بنفسه وإنفعالاته مُتناسياً أن الدواء فيه ولكنه لا يُبصر..
فلو إستمع قليلاً لنصيحة ذلك السجين الحكيم وهو يقول: إن لم تكنُ حليماً فتحَّلم!
لما إستحال مُقيداً بقيود الغضب والغل وصار حبيساً لأهواءه!
منهاج متكامل قد اسسه ذلك السجين ما عليك الا الايمان بـ بنوده حتى تتحرر من العبودية الدنيوية وتنال الحُرية التي تسعى اليها..
وتلك التي أُغلقتَ الأبواب أمامها وضاق عليها كل رحيب، تُعانق وسادتها ليلاً مُلتحفة الدموع التي لا حول لها ولاقوة ضريبة خطأ كلَّفها الكثير وما زال ينهشُ بعظم وجودها، لترفع راية الأستسلام أمام حبائل الشيطان فـ تقعُ فريسة لليأس والقنوط ولو إنها أدركت أن ذاك السجين قد فتح بابه لمثلها من قبل حين أخرجها وهي التي جاءت لتغريه بأمر من اللارشيد من مُستنقع الرذيلة ليرتقي بها نحو معارج النور والطُهر وهي تصرخ (إلهي العفو) لما أغفلت الأُخرى طرق الباب هكذا!
بعضنا قد يكون سجيناً لـ تُهمٍ شتى بهذا السجن الكبير، والبعضُ الآخر من يتوهم ليصنع لنفسه سجناً يظلُ حبيسه بتهمة الغفلة دون أن يعي إنه السجين والسجَّان بآنٍ واحد،
وهُناك من يكون السجنُ له رحمة إن كان ما يدعونه اليه جحيماً من نوع آخر (ربي السجنُ أحبَّ اليَّ ..)..
ولكن في النهاية نتفق جميعاً على إن الضريبة التي دفعها ذلك السجين المظلوم لـ نيل حُرياتنا والتحرر من شتى التُهم تستحقُ أن تُصان، تستحق أنَّ لا تذهبُ سدىً هكذا، تستحقُ منا أن نرتدي بدلة الحقوق وندافع عن ذاك الشهيد الذي دُفنَّ بسلاسله بعد أنَّ بقيت جنازته في ضيافة الجسر ثلاث أيام منا قبل أعداءنا والشهود تلك الطامورة الظلماء والسلاسل التي أجهدها كفُ موسى، وخُرقة لُف بها وأنين ضلع مُنحني عليه يُقبَّله و يصرخُ: إنتَ يا موسى بأمانة موسى بن جعفر!
شيءُ أخير أُريد البوح به لكَ أيها السجين العظيم: نحتاج لدعوة منكَ وأنت الموسوم بـ صاحب السجدة الطويلة، صاحب التراتيل الملائكية الحزينة لـ فرج صاحبنا، لنتخلص من طوامير التيه والتخبط، نحتاج لدعوة منكَ تشقُ غياهب سجننا وتُعجَّل علينا بـ فرج الجُمعة! ألستَ القائل:
طوبَى لِشِيعَتِنَا الْمُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِنَا فِي غَيْبَةِ قَائِمِنَا الثَّابِتِينَ عَلَى مُوَالاتِنَا وَ الْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِنَا أولَئِكَ مِنَّا وَ نَحْنُ مِنْهُمْ قَدْ رَضُوا بِنَا أَئِمَّةً وَ رَضِينَا بِهِمْ شِيعَة فطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوبَى لَهُمْ وَ هُمْ وَ اللَّهِ مَعَنَا فِي دَرَجَاتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ..
والسلام يا مُوسى!.
اضافةتعليق
التعليقات