كانت الزهراء (عليها السلام) تنمو في بيت الوحي، وتنبت في مهبط الرسالة نباتاً حسناً، يعلّمها أبوها الرسول (صلى الله عليه وآله) العلوم الإلهية، ويفيض عليها المعارف الربّانية، ويدرّسها أحسن دروس التوحيد ويهيئها إلى المهمة التي اختارها الله لها، فهي الامتداد لذرية النبي (صلى الله عليه وآله)، فكانت تُعَد وتُهيأ لمهمة رسالية منذ ولادتها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم وقال (صلى الله عليه وآله): فاطمة خير نساء أهل الجنة). وقال صلى الله عليه وآله: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يا معشر الخلائق، غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد على الصراط. وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: يا فاطمة، إن الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك .(1)
إن نبي الله حينما يتحدث عن فاطمة فإنه لا ينطلق من عاطفة الأبوة وهو القائل فيه البارئ:
(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وهو عموم حديثه عن الأشخاص لا يعطي أحداً أكثر مما يستحقه تبعاً لعاطفته وحتى لو كان ذلك الإنسان ابنته، لأننا لو قلنا بذلك لطعنا في نبوته وكلماته القدسية التي نؤمن جميعاً بأنها حجة لا زيغ فيها ولا هوى ثم إنه ركز في شخصية فاطمة على قدسيتها وخلوصها لله تعالى وقربها من الله بحيث يجعلك تأخذ الإحساس بأنها جزء منه ما يصيبه كأنما أصابها وما يصيبها كأنما أصابه وأنها تمثله جسداً وموقفاً تعبر عنه وهو المعبر عن إرادة الله تعالى وذلك في مجمل "أسخط فاطمة فقد أسخطني" «ومن أغضب فاطمة قد أغضبني، ومن أغضبتي فقد أغضب الله».. وعلى هذا المنوال.
ولقد استوقفني كثيراً محور كلام الرسول عن ابنته والذي كان يدور حول غضبها وسخطها ورضاها وكأنه - بأبي وأمي - يلمح للأمة إلى مصيبتها، وابتلائها في موقفها من الزهراء، هل يعقل أن يكون ذلك بلا سبب؟! ألا يحمل هذا في طياته دلالات عميقة وإشارات واضحات؟! لقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبلغ العرب حين يتكلم وأكثر الناس حكمة حينما يفصح كما كان أحسنهم إنصافاً للناس. لقد هيأ الرسول والناس حتى يصدقوا الزهراء حين تنطق وهيأهم الآن ليتحاشوا غضبها إذا غضبت وأخبرهم أن أذاها أذى له وهكذا مهمة الأنبياء تربية الأمم حاضراً أثناء حياتهم وتهيئتهم لاستقبال الحوادث المستقبلية بعد رحيلهم.
والنبي وهو وأعظمهم وهو الصادق الأمين خص الزهراء بهالة قدسية تحرم على الآخرين هتكها، ولم يكن ذلك لقرابتها منه بل لأنها أخلصت للحق وذابت في بوتقته فكانت مقياساً ومعيارا للذين سيأتون بعد أبيها وتجلت حكمة رسول الله في أحاديثه المختلفة للأمة التي كانت تنظر لواقع المستقبل وهي تحمل في طياتها بصائر تتضح من خلالها الرؤية، وتحكم بها على أحداث الواقع في أي زمان ومكان.
والأمثلة على ذلك كثيرة، لقد تحدث النبي الأعظم، عن علي بن أبي طالب علي حينما قال «علي مع القرآن والقرآن مع علي» لأن معاوية سيأتي يوماً ما ويرفع المصاحف على أسنة الرماح طالباً التحكيم بالقرآن كما حدث في صفين حينها ستعرف أين جهة الحق والصدق لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) ترك المعيار فعليٌ والقرآن لا يفترقان، كذلك عندما قال لعمار "تقتلك الفئة الباغية" فإنه (صلى الله عليه وآله) لم يترك مجالاً للاعتذار لأولئك الذين قاتلوا في صف معاوية ضد علي ومعه عمار بن ياسر وهكذا أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) تنطلق من الحاضر لتشخص داء الأمة في المستقبل، كل ذلك يجعل ننظر إلى غضب الزهراء بقدسية وإلى موقفها بتعقل.
إنه غضب من أجل الحق وموقف صدق ضد الانحراف. إننا ننزه الزهراء من أن تغضب في سبيل شـيء غير الحق إنه غضب مقدس وصرخة حق مدوية يبين الانقلاب على وصي الرسول ولما تلاقيه الأمة من بعده من انحرافات وفتن. فهي العالمة بما تؤول اليه حال الأمة بعد وفاة نبيها (صلى الله عليه وآله). (2)
_______________________________
اضافةتعليق
التعليقات