لماذا الترويح عن النفس؟
أليست الحياة جدّاً، لا لعب فيها؟
و أليس اللهو عملاً يليق بالصغار، وليس بالكبار؟
الجواب على ذلك، أنّ هنالك نوعان من الناس:
الأول: يرى الترويح عن النفس هدفاً لحياته، فيقضي عمره كله وهو يبحث عن متعة هنا، ولذة هناك، وعن راحة هنا، وترويح هناك، وهو غالباً ما يموت وحسرة اللذة المطلقة، والراحة التامة عالقة في قلبه.
الثاني: يرى الحياة جدّاً، وليس لهواً، كما يرى الوجود حقاً وليس باطلاً، ولكنه يرى الترويح عن النفس حقاً من حقوقه، وبعضاً مما أحلّه الله تعالى للإنسان في هذه الحياة، ومقدمة للعمل والنشاط، والجد والاجتهاد، فيمارس اللهو الحلال بقدر محدود، و يروّح عن نفسه بقدر محدود أيضاً، وهو يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، ولكنه لا ينسى نصيبه من الدنيا.
وبمقدار ما يكون النوع الأول على خطأ، يكون النوع الثاني على صواب.
فالحياة تتطلب الاستراحة، كما تتطلب النشاط، لأن العمل الدائم بلا ترويح، كالترويح الدائم بلا عمل، كلاهما يؤدي إلى توقف النشاط.
فمن دون الترويح عن النفس لا يستطيع أحدنا أن يحافظ على رباطة جأشه، أو أن يحتفظ بالرّوية والتعقل في تصرفاته، أو أن يحتفظ بالطاقة للعمل في حياته.
فإن النشاط والترويح طرفا دائرة السعادة، فكلاهما ضروري للإنسان ولا معنى لأحدهما دون الآخر، فلا قدرة لأحد على العمل من دون أن يستريح، كما لا معنى للراحة من دون تعب.
يقول الحديث الشريف: أفرأيت لو كان النهار مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة، ألم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان و نبات؟ أمّا الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقرّ طول هذه المدة، ولا البهائم كانت تُمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة، وكان ذلك سيهلكها أجمع و يؤدي إلى التلف.
وهكذا فإن المحافظة على التوازن بين كل من الاستراحة و النشاط ضرورية للصحة العقلية، والذهنية، وللاستمرار في عمارة الأرض، وبناء الحضارة.
و إذا ما اختل هذا التوازن فسوف ينهار التماسك الداخلي للإنسان، وكيف يستطيع من تبعثرت ذاته أن يُنجز عملاً من الأعمال؟
قد يرى البعض ان الترويح عن النفس هو ضياع في عمر الإنسان، وتلك هي رؤية قصيرة النظر، لأن ساعات الفراغ إذا صرفت في الترويح الصحيح عن النفس، هي إضافة إلى عمر الإنسان، لأنها تزيل عنه آثار التعب، وتغسل عن أعصابه مشقة العمل وتدفعه إلى المزيد من النشاط.
إن المشكلة في الذين لم ينجزوا شيئاً في حياتهم ليست في وجود ساعات الترويح الكثيرة لديهم، بل في عدم وجود أهداف محددة لديهم، وضالّة هممهم، وضياع الخطة عندهم.
هكذا فإن عليك أن تعرف بدقة: متى تبدأ ساعة العمل، ومتى يبدأ وقت الراحة، من دون أن تخلط بينهما. فلا عمل وقت الراحة، ولا استراحة وقت العمل، فأنت تمتلك بطارية داخلية إذا فرغت فلا بد من إعادة شحنها، ولا يتم ذلك إلا إذا توقفت عن العمل فترة من الزمن تكفي لإعادة أعصابك إلى هدوئها، وإراحة عضلاتك، لتعود إلى النشاط من جديد، و أنت غير سئم من العمل، ولا ضجر من الحياة.
قد يقول قائل: إن ثقافتنا تقول إن الدنيا ليست بدار راحة، فكيف يكون مطلوباً منا أن نهتم بلذاتنا، وساعات فراغنا فيها؟
والحق أن الدنيا ليست بدار راحة، فتلك حقيقة يشعر بها الجميع، ولكنها أيضاً ليست بدار عذاب.. فمن جعلها دار عذاب، فهو ممن تعجل ذلك لنفسه، و إلا فإن الله تعالى ليس بظلام للعبيد.
يقول الحديث الشريف: اعلم أن الله تعالى، يُراد (يُطلب) باليسير، ولا يراد بالعسير. كما أنه تعالى أراد بخلقه التيسير، ولم يرد بهم التعسير.
فإدخال السرور على النفس، وعلى الناس هو مما يريده الله للناس. وتحريم ذلك ليس أقل من تحليل ما حرّمه الله، ألا يقول تعالى: قُلْ منْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتي أخْرَجَ لِعِبادهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرزقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمنُوا في الحَيَاة الدُّنيا خَالِصَةً يَومَ القِيامَة كذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعلمُون.
إذا ما افترضنا أن الترويح عن النفس، هو نوع من أنواع العمل من أجل الدنيا، فليس فيه أي ضير، لأننا مطالبون بأن نعمل من أجل الدنيا بمقدار ما نعمل للآخرة، يقول لقمان لابنه يا بني.. لا تدخل في الدنيا دخولاً يضر بآخرتك، ولا تتركها تركاً تكون كلاً على الناس.
فمن واجبات المؤمنين: الاهتمام بالدنيا كما أن من واجباتهم الاهتمام بالآخرة. يقول الحديث الشريف: أعظم الناس همّاً: المؤمن، يهتم بأمر دنياه وأمر آخرته.
نعم ليس من الصحيح أن يتعلق الإنسان بالدنيا بحيث يُنسيه ذلك آخرته، ويغلب على عقله، فإن من غلبت الدنيا عليه، عمى عما بين يديه.
أما إذا أردناها من غير أن تغلب على عقولنا، فهي الوجه الآخر من حب الآخرة..
مجالات الترويح عن النفس:
بمقدار ما هنالك من أعمال فإن هنالك مجالات للاستراحة منها، والترويح عن النفس فيها.
وبما أن لكل شخص طريقته الخاصة في الحياة، فإن رغبات الناس في الترويح تختلف، كما تختلف أطوارهم ولعل ما يريح أحدنا يزعج الآخر، والعكس أيضاً صحيح.
غير أن هنالك مجالات عامة تعتبر أُطراً للترويح ولعل الجميع يرغب في الاستفادة منها بشكل أو بآخر، نذكر منها ما يلي:
-اللجوء إلى المتع المحللة، واللذات المشروعة.
-السفر.
-الإخلاد إلى الراحة والنوم.
-مسامرة الأصدقاء.
-السباحة، والاستحمام.
-المشي.
-الدعابة.
-الرياضة.
-الاختلاء بالذات.
-ركوب الخيل.
-الاسترخاء.
-ممارسة الهوايات المفضلة.
اللجوء إلى المتع المحللة و اللذات المشروعة:
لا توجد أشياء كاللذات المشروعة يمكنها أن تروح عن النفوس التعب، وتزيل عنها الآلام، وتنسيها المشاكل.
فالشهوات جزء من وجود الإنسان. واشباعها – عن طريقها الصحيح – ليس حقاً طبيعياً فحسب، بل الامتناع عنها شذوذ وانحراف..
جاء في حديث شريف عن الرسول الأكرم –صلى الله عليه و آله وسلم - : على العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
فلا بدّ من تقسيم الزمن على ثلاث:
أ – العمل من أجل الآخرة.
ب – العمل من أجل المعاش.
ج – اشباع اللذات.
وقد قال الإمام علي عليه السلام: للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها، فيما يحل ويجمل.
واللذات كثيرة، ولكن من أهمها:
لذة الجنس.
لذة الطعام.
لذة الشراب.
لذة اللباس.
لذة المسكن والمركوب.
وكلها لذات ترتبط بالجسد وهي في ذات الوقت من حاجات البشر الأساسية فلا حياة لهم بدونها.. فكيف يعيش الانسان من غير طعام، أو من غير شراب، أو من غير ملبس أو مسكن؟
وكيف يستمر الجنس البشري من دون تزاوج بين الرجل والمرأة؟
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وما دامت هي متاع الحياة الدنيا، وما دمنا نعيش نحن في هذه الحياة، فهي إذن متاعنا. وليس من العيب أن تكون فينا شهوات و رغبات، و أن نشبعها بما هو حلال بل العيب أن تمتلكنا الشهوات والرغبات، وتسلبنا إرادتنا.
و أفضل طريقة لمنع غلبة الشهوات، هي أن تتحكم فيها، بأن تشبعها بما هو صحيح، وبمقدار مختصر من دون اسراف أو افراط.
يقول الإمام علي عليه السلام: إذا غلبت عليك الشهوة فاغلبها بالاختصار.
و في حديث مروي عن الإمام الكاظم عليه السلام: إجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال، وما لا يثلم المروّة، وما لا سرف فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين، فإنه روي: ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه.
وهكذا فإن المطلوب هو أن نعطي أنفسنا ما تشتهيه من الحلال، وفي ذلك اللذة والراحة والثواب ايضا.
(كتاب: فنون السعادة، سيد هادي المدرسي).
اضافةتعليق
التعليقات