يحلّ علينا شهر رمضان كل عام كهدية إلهية، يهبها الله لعباده لينير دروبهم، ويمنحهم فرصةً عظيمة لمحاسبة النفس وتزكيتها. فهو ليس مجرد شهرٍ للصيام، بل موسمٌ للتجديد الروحي، ونافذةٌ مفتوحةٌ نحو الرحمة والمغفرة. ومع ذلك، ورغم قدسية هذا الشهر، نجده عند البعض موسمًا لا يخلو من المنكرات والغفلة، حيث يغيب الوعي عن كثيرين بعد الإفطار، فتضيع روحانيات هذه الأيام المباركة في زحام اللهو والتسلية، وكأن هذا الشهر لم يكن إلا ساحةً للمتعة المؤقتة.
رمضان.. بين العبادة واللهو
إن جوهر الصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة للروح، امتحان لصبرها، وميدان لتهذيبها. غير أن بعض الصائمين يظنون أن النهار مخصص للصيام، بينما الليل ساحة مفتوحة للغفلة، فتراهم يسرفون في المجالس الصاخبة، واللغو، واللهو غير النافع، حتى يصبح رمضان لديهم مجرد عادة فارغة من مضمونها الروحي.
وإذا تأملنا الواقع، وجدنا أن وسائل الإعلام تتفنن في ملء ليالي رمضان ببرامج ومسلسلات تُبعد القلوب عن أجواء الخشوع، وتُحكم قبضتها على الأوقات الثمينة، فلا يبقى للعبادة إلا الفتات. وكأن الهدف هو إشغال الناس بملذات زائلة، بدلًا من استثمار هذا الشهر في ما يعود عليهم بالنفع، إلا من رحم الله ووفّقه لاغتنام هذه الأيام المباركة.
الغاية الحقيقية للصيام
لقد جعل الله رمضان موسمًا للتوبة، وساحةً لمجاهدة النفس، وميدانًا لمضاعفة الأجر. فهو فرصة لترويض الشهوات، وتطهير القلب، وتعزيز الإرادة. لكن الكثيرين يفرّغونه من مضمونه، فيتحول إلى مجرد طقوس شكلية، لا تترك أثرًا في النفس ولا في السلوك. فالصيام الحقيقي ليس جوعًا وعطشًا فحسب، بل ترويض للنفس، وكبحٌ للنزوات، وإعادة ترتيبٍ للأولويات.
خطوات لاستثمار رمضان بوعي
لذلك، دعونا نعيد النظر في كيفية استغلال هذا الشهر، ونسعى لجعله محطةً حقيقية للتغيير. يمكن تحقيق ذلك من خلال:
تعزيز العبادة: بجعل الصلاة، وقيام الليل، وقراءة القرآن أولوية يومية.
الابتعاد عن الملهيات: تقليل الوقت المخصص لمشاهدة البرامج والمسلسلات، والتركيز على المحتوى الذي يضيف قيمة حقيقية.
التقرب من الله بالدعاء والذكر: فكل دقيقة في رمضان كنز، وكل لحظة فرصة لمحو الذنوب.
تزكية النفس وتحسين السلوك: رمضان هو الوقت الأمثل لمراجعة أخلاقنا وتصحيح أخطائنا.
إحياء روح العطاء: من خلال الصدقات، ومساعدة الآخرين، وتقديم الخير للمحتاجين.
صيام القلوب قبل صيام الجسد: إن الصيام ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتهذيب النفس، وتقوية الصلة بالله. فليكن صيامنا صيام القلوب، لا صيام الجوع والعطش، حتى لا نكون من أولئك الذين قال عنهم النبي (صلى الله عليه وآله): "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
رمضان لم ينتهِ بعد، وأبواب الرحمة ما زالت مشرعة، فلتكن هذه الأيام بدايةً لسباقٍ نحو الجنة، لا غفلة تُورث الحسرة. فربما يكون هذا الشهر هو فرصتنا الأخيرة للتوبة والرجوع إلى الله، فلنستثمره بحكمة قبل أن ينقضي.
اضافةتعليق
التعليقات