إن الإشكالية اليومية التي نمر بها فيما يخص التأخر في الاستجابة للرسائل النصية أو الصوتية التي تردنا تكاد تصبح حدثاً يومياً، إذ تنهالُ علينا الرسائل ولا نتمكن من الاستجابة لها بشكل فوري أو سريع، لأسباب أو دون سبب في أحايين كثيرة، وفي كل مرة نجدُ أنفسنا نُذيّل أو نبدأ رسائلنا بعبارة (أعتذر عن التأخير).
تناول هذه الإشكالية حوار أجرته «ذا أتلانتك» مع جيسون فارمان، الباحث في وسائل الاتصال ومؤلف كتاب التأخر في الرد: فن الانتظار من العصور القديمة إلى عصر السرعة - Delayed Response: The Art of Waiting from the Ancient to the Instant World).
يقول فارمان في إجابته عن سؤال حول المعنى الضمني الذي تحمله ممارستنا اليومية لعادة الاعتذار عن التأخر في الرد: أنَّ الرسائل النصية والصوتية قلَّصت فترة الانتظار المتاحة إلى صفر، مما جعل أي تأخر في الرد، سواء كان ساعة أو أيامًا، أمرًا يُشعِر المتلقي بالذنب، ويتطلب منه الاعتذار. فالمشكلة الحقيقية التي نعانيها في بنية حياتنا الرقميَّة المعاصرة أنَّنا بات متوقعًا منا أن نكون متاحين طيلة الوقت لتلقي الرسائل، وعلى أهبة الاستعداد في أي لحظة للرد عليها.
لقد قادته أبحاث فارمان من أجل كتابه الجديد "الاستجابة المتأخرة: فن الانتظار من العالم القديم إلى العالم الفوري" إلى طوكيو لدراسة الرسائل النصية؛ وإلى مختبر للفيزياء التطبيقية لمعرفة المزيد عن ساعات الانتظار المرهقة للحصول على ردود من مسبارات الفضاء؛ وإلى أرشيفات مختلفة تحتوي على رسائل الحرب الأهلية، وأختام رسائل الشمع من العصور الوسطى، ومعلومات حول نظام الأنابيب الهوائية المعقد في مدينة نيويورك.
يتضمن كتاب "الاستجابة المتأخرة" أيضًا تأملات مطولة حول الانتظار الذي يقوم به الناس المعاصرون على أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، حيث يتوقعون بسذاجة أنه عندما ينتهي التنزيل أو يتم تحديث موجز الأخبار، فإن صبرهم سيكافأ وسيشعرون بالرضا أخيرًا.
لقد تحدثنا مع فارمان حول طغيان البريد الإلكتروني، ولماذا أصبحت الرسائل النصية شائعة جدًا، وما إذا كانت وتيرة الحياة تبدو أبطأ بالنسبة للأشخاص الذين عاشوا في عصور سابقة. تم تحرير المحادثة التالية من أجل الوضوح والطول.
- في الكتاب، تنظر إلى الاتصالات من الماضي، التي تعود إلى عشرات ومئات وآلاف السنين. منذ متى يعتذر الناس عن تأخرهم ويشيرون إلى عدم قدرتهم على مواكبة التطورات؟
فارمان: لقد رأيت ذلك عبر التاريخ ــ هناك لحظات يشرح فيها الناس باستمرار أسباب تأخر استجاباتهم. وهذا أمر شائع للغاية إذا نظرت إلى رسائل الحرب، على سبيل المثال أثناء الحرب الأهلية. تبدأ جميعها تقريبًا بنوع من علامة الوقت ــ تلقيت رسالتك الأخيرة في الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول أمس ــ ثم تشرع في شرح سبب عدم ردها حتى الآن. لأنهم في هذه اللحظة يدركون تمام الإدراك أن الأشخاص الذين يتواصلون معهم قد يفهمون الصمت على أنه "لقد مات هذا الشخص أو أصيب أو فقد". أعتقد أن هذه الرسالة تكون أكثر عمقًا في اللحظات التي تشير فيها التأخيرات إلى أمر خطير، لكنها تنسج نفسها أيضًا في العلاقات اليومية العادية. ولأننا نستخدم هذه التقنيات لتحديد إيقاع علاقاتنا، فعندما ينقطع هذا الإيقاع، نشعر بالالتزام بشرح السبب.
_ هل شعر الناس دائمًا أن وتيرة الحياة تتسارع بالطريقة التي يفعلونها اليوم؟
فارمان: أنت ترى هذا الضغط للوقت الآن، وهو أمر رائع، لذلك تخيلت أنه عندما أعود بالذاكرة إلى التاريخ، سأرى أن التجارب البشرية للوقت ستكون مختلفة نوعيًا، لأن التقنيات ستكون أبطأ في ذلك الوقت. لقد توصلت في النهاية إلى أن الناس عبر العصور يشعرون بالانجذاب إلى هذا المستقبل المتسارع، مع تسارع التقنيات التي تبقينا على اتصال ببعضنا البعض - فضلاً عن الوعد بأننا سنكون متصلين ذات يوم بهذه الوتيرة التي ستقضي على الانتظار تمامًا.
_هل هناك خط فاصل في التاريخ حيث يبدأ هذا في أن يصبح أكثر واقعية؟
لدي شعور بأن حاملي الرسائل الأستراليين الأصليين الذين كتبت عنهم منذ أكثر من 10000 عام لم يشعروا بالضغط بسبب وتيرة الحياة المتسارعة.
فارمان: أعتقد أنه من الأسهل رسم الخط الفاصل بين لحظتنا المعاصرة والعديد من التقنيات التي ظهرت في القرن التاسع عشر، مثل التلغراف ونظام البريد الأنبوبي الهوائي. لكنك تجد لحظات عبر التاريخ حيث شعر الناس بهذا الانجذاب للتسارع وعدم القدرة على مواكبة ذلك. مع انتقال الناس من الثقافات الشفهية إلى الثقافات المتعلمة، شعر بعضهم بالإرهاق من كمية المعلومات التي كان عليهم تخزينها وأرشفتها. خلال فترة الإمبراطورية الرومانية، لاحظ سينيكا أنه كان يشعر بالإرهاق بسبب فوضى الوثائق على مكتبه - بالنسبة له، فإن رؤية كل هذه الأوراق وكل أنواع البيروقراطية المختلفة التي تمثلها تؤدي إلى انشغال ذهنه.
ويقول فارمان في إجابته عن سؤال حول المعنى الضمني الذي تحمله ممارستنا اليومية لعادة الاعتذار عن التأخر في الرد:
"حين نعتذر عن التأخر في الرد، فنحن نعترف ضمنيًّا بالانشغال العارم الذي نعيشه، وبالارتباك المقلق الذي يصيبنا طيلة اليوم مع تكاثر الرسائل التي تردنا والتوقعات العالية منا بالرد عليها فورًا. إذ بعدما سرَّعت التقنية نمط حياتنا، بات لدينا واجب أخلاقي ملحّ باستغلال كل ثانية من وقتنا بحكمة وإنتاجية. لكن المفارقة، أنَّ هذا الواجب يصعب علينا تحقيقه كلما زادت التقنية سرعة التواصل بيننا. ففي هذا السياق، تحوَّل الانتظار إلى وقتٍ مهدَر. بمعنى: أنَّ تأخرك في الرد عليّ يضطرني إلى انتظارك، والانتظار يهدر وقتي، الذي هو أثمن موردٍ لدي، ويحرمني من استغلاله بحكمة وإنتاجية".
اضافةتعليق
التعليقات