لقد بلغ الطغيان بالخليفة العباسي أنه خاطب السحاب قائلا: "أيتها السحابة أمطري حيث شئتِ، فإنّ خراجكِ سيأتي إليَّ" تعبيرا عن سعة ملكه، واتّساع سطوته بأن صار يملك شرق الأرض وغربها!
هكذا يفعل الملك بأصحابه الذين لا يملكون حصانة الإيمان والتقوى؛ فيجرّهم إلى الطغيان، ويستدرجهم للكبر والخيلاء، وقد ينتهي بهم الأمر إلى الكفر، ومحاربة الحق وأصحابه والتنكيل بهم وقتلهم.
جبهتان منذ بدء الخليقة، جبهة الحق وجبهة الباطل، جبهة النور وجبهة الظلام في مواجهة دائمة، وحرب ضروس، حيث يحاول الباطل محاولة مستميتة لإطفاء نور الحق، ولكن الحق باقٍ ومنتصر لأنه يملك مؤهلات البقاء والاستمرار، وإذا استطاع الباطل أن يكسب جولة فإن الحق ينتصر في جولات والخاتمة السعيدة ستكون له في نهاية المطاف !.
قال تعالى: ﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـدِ * مَتَـعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ ﴾
خطاب في ظاهره للنبي (صلى الله عليه وآله)، لكنه في الحقيقة موجّه لكل البشر، فالملاحَظ في هذه الحياة إن العصاة والطّغاة، والفراعنة والفسّاق، يرفلون في النعيم، ويعيشون حياة الرفاهية، والرخاء بألوانه كافّة، في الوقت الذي يعيش أولياء الله في الشدة والضنك وحياة العسرة؛ وربما تنتهي حياتهم بالقتل ظلما؛ هذا الوضع قد يشعر البعض بالقلق وربما اليأس لكن الآية توضّح لهم الحقيقة فتقول: ﴿متاع قليل﴾ فالنّجاحات المادية الباهرة التي يحصل عليها أصحاب جبهة الباطل، والتي تخطف أبصار ضعيفي الإيمان، وأصحاب النظرة الضحلة للأمور ليست سوى متاع قليل، ولذّة خاطفة عابرة، كالظل الزائل، لينتهي بهم الأمر إلى الخاتمة السيئة، والعاقبة المشؤومة وهي جهنم وبئس المهاد .
الإمام الكاظم (عليه السلام) هو حجة الله وكتابه الناطق، ووارث علم آبائه الطاهرين يدرك هذه الحقيقة التي خفيت على الكثيرين، وهي إن مظاهر تفوق الطغاة والظالمين إضافة لكونها زائفة، فهي محدودة الأبعاد، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومحنهم مؤقتة، ومحدودة أيضاً، تلك المعانات التي يتعرض لها كل من يناصر الحق، أو يقود ثورة تغييرية في وجه الفساد .
لقد عانى الإمام الكاظم (عليه السلام) من طاغية زمانه أقسى ألوان الخطوب والتنكيل، قضى حوالي ثلث حياته الشريفة متنقلا مابين إقامة جبرية إلى سجن، حتى انتهى به الأمر إلى زنزانة ذلك الناصبي الحاقد السندي بن شاهك؛ الذي حبسه في طامورة مظلمة لا يُعرف فيها الليل من النهار، ضيّق عليه الحبس، وأرهقه بالقيود التي كانت تشلّ حركته وتدمي أعضائه، عامله بأشد أنواع القسوة ومنعه من الاتصال بالناس، وختم حياته الشريفة بالسمّ الزعاف، والإمام عليه السلام مع كل هذا التنكيل والأذى صابر محتسب قد أظهر أعلى درجات التحمّل وكظم الغيظ حتى صار لقب "الكاظم" عنواناً له ولقباً دون سواه من المعصومين (عليهم السلام)، لقد اعتبر محنته منحة من الله، ومعراج لمزيد من الارتقاء والقرب من ساحته المقدسة .
وفيما كان الرشيد موغل في ظلمه وعدوانه، يصبّ عليه صنوف الأذى أرسل له الإمام عليه السلام رساله يذكره بالحقيقة السالفة، بأن متاع الطغاة قليل مهما طال أمد ترفهم، فستدركهم حتما نهايتهم المشؤومة، وإن الخاتمة السعيدة للمؤمنين الصابرين مهما امتدّ زمان محنتهم، جاء في رسالة الإمام:
"إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون" .
وتحقق كلام الإمام عليه السلام حيث ولّت عن هارون أيام عزّه ورخائه، غادر ملكه الواسع متحسّرا وهو يبكي ويردد: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}، وقبل موته أشرف على جنده وبكى وهو يقول:
" يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه " .
نعم زال ملكه وجبروته، وخسر صفقته البائسة القائمة على الباطل، لم يدرك الحقيقة إلا في وقت لن ينفعه فيه الندم والبكاء، وسينقلب إلى الله في يوم يلتقي فيه الخصوم، فماذا سيقول، وكيف سيبرر قتله لسليل سيد المرسلين، هل سيعتذر بمقولته الجائرة: "إن الملك عقيم"؟
زال ملك الباطل وصولته الزائفة، وبقي الحق المتمثل بسيد الصبر منتصرا عزيزا شامخا تهفو له الأفئدة، ويلوذ بمشهده المقدّس الملايين من عشّاقه، يطرقون باب كرمه بأكفّ الحاجة والرجاء، يزرعون في فِنائه الأمنيات، ويحصدون أجمل البشائر.
اضافةتعليق
التعليقات