كنت أتجول في شارع المتنبي الذي تفوح من أرصفته رائحة الورق القديم فيضيع على أثره الناس بين زحام الكتب وأصوات الباعة المثقفين الذين من شدة حبهم للقراءة يبيعون للناس شغفهم في دكاكين بسيطة.
في هذا الشارع تجد كل أنواع الكتب، كل يروج لما عنده ويسرف في الشرح عن الكتاب الذي يحاول العابر اقتناءه.
كل بائع في شارع المتنبي بمثابة مُبلغ عن الشيء الذي يعرضه للناس، وقد تجد أنواعا مختلفة من الكتب والثقافات، فكل بمجاله، العلمي والثقافي والاقتصادي والأكاديمي وكذلك التنمية والتطوير..
ولكن نادرًا ما ترى أحدًا يعرض الكتب الدينية أو يسهب في شرح الكتاب الفلاني أو يعرّف عن الشخصية الدينية في الرواية الفلانية... فغالبا ما يكون صاحب الكتب الدينية في شارع المتنبي صامتا، لا يتكلم كثيرا عن ماهية الكتب المعروضة ولا يشجع المار على معرفة التفاصيل الموجودة في الكتب التي يبيعها ولا يشعل روح الشغف فيمن يريد أن يطلع على الكتاب أو يقتنيه، لهذا السبب نادرا ما تجد شخصا يتصفح كتاب من عنده أو يحاول الاقتناء منه.
إنه لا يؤدي مهنته مثلما يؤديها غيره، فالبائع المقابل له ما إن يجد شخصا حمل كتابا من عنده حتى بدأ بدس التفاصيل الجميلة عن الكتاب ويحاول اغراءه بأي طريقة ممكنة، وقد لاحظت بأنه يسهب كثيرا في شرح الكتب التي يدور موضوعها حول الإلحاد، إذ إنه يعرف جيدا كيف يكون مبلغا ناجحا عن الفكرة التي يؤمن بها... فكرة الالحاد!
فرضا لو تجول دارون (صاحب نظرية التطور) في شارع المتنبي لشعر بالفخر جدا، لكون الناس تحرص على نقل أفكاره عبر الأجيال من خلال الكتب.
وكذلك ارسطو وشكسبير وغيرهم من عمالقة العلم والفن سيشعرون بالفخر كذلك، لكون انجازاتهم تأخذ صداها مهما طالت الأيام وامتد الزمن.
لكن ماذا لو تجولت السيدة الزهراء في شارع المتنبي وشاهدت هذا الكم الهائل من الكتب الموجودة في هذا الشارع ولم تجد كتبا تنقل تاريخ سلالتها العظيمة الذين أحدثوا نقلة تاريخية في مجالات الحياة المتعددة؟
فكم كتاب يتحدث عن جابر بن حيان وكم كتاب يتحدث عن معلم جابر بن حيان؟، هل هذا الأمر منطقي؟ كيف من الممكن أن نقدس التلميذ أكثر من معلمه؟
"ففي كتاب (الامام الصادق كما عرفه علماء الغرب) نماذج من البعد العلمي للإمام (عليه السلام) جديرة بالتأمل والتفكير، فقد نقل هؤلاء عن الامام اكتشافاته وريادته العلمية في عدة أمور مثل تخطئة نظرية بطليموس في كيفية حركة الشمس، وتخطئة نظرية العناصر الأربعة... الخ.
فمن المؤسف جداً أن نقضي الساعات الطوال في فهم ما يقوله ارسطو، أو افلاطون أو سقراط، والأنكى من ذلك الاعتقاد بما يقوله هؤلاء، بل والأنكى أيضاً ترجيح البعض لما يقوله أولئك على ما يقوله الإمام الصادق (عليه السلام) وحتى على ما يقوله النبي الأعظم والأئمة الأطهار". على الرغم من أن العلم الذي أتى به الأئمة الأطهار كان خارجا عن المألوف وبعيدا تماما عن تصور الانسان، والكل متفق على نقطة واحدة وهي أن الأئمة أناس عباقرة سواء كانوا من داخل المذهب الشيعي أو خارجه، وحتى الغرب وغير المسلمين يعترفون بالذكاء الخارق الذي كان يتمتع به الأئمة عليهم السلام. "
لكن ما يحصل اليوم في مياديننا العلمية والثقافية، هو تضليل الحقيقة في أذهان الناس، ومحاولة تدوير محور التطور نحو الباطل في حين أن محور التطور نبع من الحق نفسه، وإن كل المعلومات العلمية والثقافية والدينية مصداقها أهل البيت (عليهم السلام)، في حين أننا نحاول بكل ما نملك أن ننسبها إلى أشخاص لم يكن لهم نصيبا في معرفتها إلاّ من خلال أهل البيت!
وما يشعرنا بالأسف الشديد هو ضعف التبليغ في مثل هذه الأماكن، في حين تجد الملحد والليبرالي والانسان المادي جميعهم متمسكين بأفكارهم ومعتقداتهم الخاطئة إلاّ الشخصية المسلمة التي تملك بيدها جوهرة الحق غالبا ما تكون ضعيفة في هذه الأماكن وتتجنب التبليغ أو ابداء الآراء الدينية أو التكلم عن الشخصيات أو الأفكار الإسلامية لأنها تخاف أن يشار اليها بإصبع التطرف أو العنصرية.
فهل من العدل أن نتحدث عن النسويات ونبين القوة والحرية للمرأة في شارع المتنبي ونتجنب الكلام عن المرأة التي وقفت بكل ما تملك من الإيمان بوجه الباطل وخطبت أمام الملأ خطبتها العظمية التي هزت الرجال والنساء؟
هل يمكن أن نقارن بلاغتها ببلاغة أكبر شاعرة خلدها التاريخ العربي كنازك الملائكة مثلا؟، أو نقارن قوة موقفها مع موقف النسويات اللاتي يطالبن بحقوق وهمية؟
من هنا يتضح أهمية تعزيز قوة التبليغ الإسلامي في الأماكن الثقافية بصورة عامة، فمادامت الحرية تتيح لليبرالي والملحد التعبير عن آرائهما والثبات عليها إذن من حرية المسلم التعبير عن آرائه أيضا والثبات على موقفه، فلمَ نتحرز في رفع الستار عن الحق ونسمح للباطل التسكع في عقول الناس بحجة الثقافة والتطور؟
فالحضور في شارع المتنبي وغيره من الأماكن الثقافية هو ضرورة لابد منها، فالفكر الإسلامي الشيعي لا يقتصر على كربلاء والنجف فقط، بل يجب أن يصل هذا الفكر الأصيل إلى شوارع بيروت وأزقة لندن ويدق أبواب باريس ويصل إلى متحف لوفر وإلى كل النقاط الثقافية في الكون، ليعرف الناس بأن استفحال الباطل في العالم لا يعني ضعف الحق أبدا!.
اضافةتعليق
التعليقات