رغم طول الفترة الزمنية التي اعتمدت فيها سياسة التمييز الطائفي، إلا أن العراق لم يشهد حالة الاضطهاد الطائفي الاجتماعي، بمعنى أن الشيعة لم يتعرضوا لاضطهاد اجتماعي من قبل الطائفة السنية، إنما وقع الاضطهاد عليهم من قبل نظام الحكم الطائفي، وهذه مسألة يجب التوقف عندها وتأملها بشكل دقيق، لأن ما وصل إليه العراق من أزمات كان نتيجة سياسة التمييز الطائفي للأنظمة الحاكمة. ولا بد من إعطاء هذه المسألة الأولوية في كل مشروع يهدف إلى تخطيط مستقبل العراق السياسي، فهي الضمان لعدم تكرار مأساة الأمس في عراق الغد.
فمن الضروري جداً التمييز بين الحالة المذهبية كمظهر فكري واجتماعي في الواقع العراقي، وبين سياسة التفرقة الطائفية، إذ إن العراق يعاني من مشكلة النظام الطائفي وليس من الحالة الطائفية، فليست هناك مشكلة اجتماعية بين السنة والشيعة، والعراق هو نموذج متقدم للانسجام الوطني بين فئاته وقومياته وطوائفه، وعاش السنة والشيعة، في انسجام وتوافق يندر أن نجد له نموذجاً في البلدان الأخرى.
ولقد كان النضال الوطني من أجل الاستقلال مشتركاً بين السنة والشيعة، بدءًا من علماء الدين من الفريقين، وانتهاءً بالقواعد الشعبية. وكانت الأحزاب السياسية الوطنية تضم السنة والشيعة، ولم يكن هناك أي حس طائفي في قضايا العراق المصيرية، وقد واجهت سلطات الاحتلال مشكلة الوحدة الوطنية والتلاحم الاجتماعي الكبير الذي ساد الساحة العراقية قبل تشكيل الحكم العراقي الحديث.
وكان هدف الشيعة تحقيق الاستقلال العراقي وبناء الدولة الجديدة على أسس وطنية ترفض كل مظهر يخل بالاستقلال ويتجاوز إرادة الشعب. ولعل مطالبتهم بملوكية أحد أنجال الشريف حسين هو الدليل الأكبر والوثيقة التاريخية الأوضح على تجاوزهم العقدة الطائفية، وتقديم الاستقلال الوطني فوق كل اعتبار. وكان بمقدورهم أن يطالبوا بملك عربي شيعي وهم آنذاك القوة الاجتماعية والسياسية الأولى في ساحة المعارضة. بل أن ملوكية فيصل بن حسين ما كانت لتتم لولا موافقة مراجع الدين الشيعة وزعمائهم.
إن أزمة العراق السياسية لم تنجم عن طائفية اجتماعية، ولا من عقدة شيعية تجاه السنة، ولا العكس، إنما نشأت من النظام السياسي الحاكم الذي اعتمد النهج الطائفي كأساس لإرادة السلطة، وصار اضطهاد السلطة للشيعة ممارسة سائدة في الحياة السياسية العراقية، أفرزت الكثير من الأزمات والتعقيدات التي أوقعت العراق في الدكتاتورية وغيبت عنه كل مظاهر الديمقراطية والحرية.
وعلى هذا فإن الخروج بالعراق من أزماته السياسية، ورسم معالم مستقبله السياسي لا يتم إلا بإبعاد المشكلة الطائفية من نظام الحكم القادم، والتعامل على أساس وطني كامل في تصميم السلطة، بعيداً عن التقسيمات والنسب الطائفية.
اضافةتعليق
التعليقات