يُحكى أنَّ هناك سفينة أصابها العطب يوماً، حار الربّان في طرق كشف الخلل فيها، جال في شرق البلاد وغربها بحثاً عن خبير يُصلح الخطأ، دفع الملايين في سبيل ذلك ولم ينجح أي أحد في معرفة الحل، إلى أن قيل له أنّ هناك خبير ذكي في بلد أجنبي سيعرف حتماً إصلاح السفينة، وهكذا استقدم الربّان ذاك النجّار الغربي، وفعلاً تمّ إصلاح الخلل ومضت السفينة قدماً.
المضحك المبكي في هذه القصة، أنَّ الخلل كان في فقد مسمار صغير لم يكلّف ذاك المحترف سوى النزر القليل من المال لشرائه ولم يستغرق عمله سوى دقائق، وعندما سأل الربّان ذاك الخبير عن تكلفة عمله، تفاجأ الجميع بالمبلغ الخيالي الذي طلبه، وحين سألوه عن سبب ذلك أهو سعر المسمار أم المطرقة أم تكلفة مجيئه من بلاد بعيدة، أجاب: قد لا يكون هناك قيمة عالية لكل ذلك، لكن معرفة مكمن الخلل بالتحديد كلفني سنوات من الجهد والخبرة، وأردف ضاحكاً: ثم إنكم لا تملكون في بلادكم مثل هذا المسمار!.
تنطبق هذه القصة على الكثير من الأزمات في حياتنا، وتكاد تكرر نفسها بصور متعددة وبوجوه مختلفة مع الكثير من المواقف، ولا سيما في الجانب السياسي..
لا يخفى على أحد أنَّ السبب الرئيسي في الفساد الاداري المتفشي في عصب الدولة هي ابتعادها عن شكل من أشكال الحكم والذي يسمى بحكومة الكفاءات أو حسب المفهوم السياسي المعاصر "التكنوقراط".
تكنوقراط، كلمة يونانية مكونة من جزأين وهما: تكني، أي فني وتقني، وقراط أو كراتس، أي سلطة وحكم. ومن شروط هذه الحكومة أن تكون غير حزبية وتعتمد على الشهادات العلمية والمهارات العملية، وهذا المبدأ يراه الكثير الحل الأمثل لتحسين الأوضاع وحل الأزمات بأشكالها المتنوعة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
يقوم هذا النظام على اختيار قادة وصانعي قرار قادرين على تحمّل مسؤولية مهامهم دون تأثير من جماعات تربطهم مصالح خاصة، ويتم اختيارهم على أساس خبرتهم في مجال علمي محدد، وعليه ستتطور الدولة في كافة القطاعات بعد تشغيل الوظائف على حسب الاختصاص.
الاختصاص، هذه الحلقة المفقودة في سلسلة حياتنا، وهي تؤثر كثيراً في تقدّم الفرد والمجتمع، ومشكلة المشاكل في بلادنا ليست فقط بتزوير الشهادات مثلاً، بل بوصول صاحب تلك الشهادة إلى مراكز دقيقة ومهمّة ومفصلية في الدولة.
أما عن تاريخ مصطلح "التكنوقراط" فهو يُنسب لمهندس من كاليفورنيا أطلقه في عام 1919، ويقال أن هذه الكلمة استخدمت في مناسبات سابقة.
وعندما نبحث عن هذا المصطلح كمعنى وتطبيق وليس كاسم معاصر ولفظ مجرد، نجده في التاريخ الاسلامي وتحديداً في حكومة الامام علي عليه السلام، وهذا ليس معناه أنه لم يكن ضمن منهج الرسول محمد صلى الله عليه وآله، بل منهج علي هو منهج ابن عمه المصطفى، لكن اختلفت الظروف بين الادارتين، ففي الأولى كانت مساعيها تثبيت دعائم الدين، وفي الثانية مرحلة البناء في كافة الأصعدة ومنها السياسي.
إنَّ عهد الأمير الذي كتبه إلى واليه مالك الأشتر في مصر، يعد دستوراً ومرجعاً وضع فيه الامام عدة مبادئ ومنها، مبدأ الكفاءة أو التكنوقراط..
يكشف ذلك العهد فكر الامام الثاقب وعقليته الفذّة في الحكم، وليس غريبا أن يترجم ذلك العهد إلى الكثير من اللغات وتأخذ كبريات الدول ومؤسساتها العديد من بنوده ومنها منظمة الأمم المتحدة، فهو "أطول عهد كتبه الامام وأجمعه للمحاسن".
وفي هذا العهد نستنبط بأن الامام كان أول من فصل ما بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبيّن فيه واجبات الحاكم وحقوقه في السلطة بمسمياتها المختلفة من والٍ وعامل وأمير وحاكم ورئيس دولة، ويضم بين جنباته أنجع السبل وأفضل الحلول في الاقتصاد والاجتماع والقضاء والأمور العبادية.
ومن بداية العهد وكلماته الأولى نلمس وصايا الأمير لمالك في أهمية الاختصاص وضرورة العدالة والمساواة من غير تفريق في دين ومعتقد وعرق وجنس، حيث يقول صلوات الله عليه:
"هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهد إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها".
وقد قسّم هنا الأهداف من حيث الاقتصادي وهي الجباية واصلاح الأرض والعسكري والأمني من خلال جيش الحماية من العدو والاجتماعي وهو تنمية أفراد المجتمع.
وهذا ما يتوجب على السلطة عمله، فبدل أن تدفع ماء وجهها وأموال مواطنيها على الغرباء لإصلاح وبناء أرضها، فلتبحث عن طاقات شبابها المخبوءة تحت تراب الاهمال والفساد من رشوة ومحسوبيات وغيرها، ولتدرّب سواعد أبنائها على حمل أثقال الوطن ليواكب الدول ويلحق بركب الحضارة، وذلك لا يتم إلا بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
اضافةتعليق
التعليقات