قطار العمر يجري سريعا، هكذا اشعر كلما ارى صورتي في المرآة، تغيرت ملامحي، لم تعد صافية، اتوقف لحظة عند اول خط برز في جبهتي وكيف أحاط بعيني فلم يعد الضياء يغمرها، غصت في هذا الزخم المتلاطم من الخطوط المبعثرة، حتى خصلات شعري لم تعد شقراء ناعمة، تلونت بألوان الرماد، في العشرين من العمر وملامحي اصبحت ملامح عجوز طاعنة في السن!.
وانا واقفة احاول أن اخفي تلك العلامات البائسة، كيف بفتاة بعمر الزهور تصبح خاوية يأكل جسدها الحزن، موغلة في الاحباط والصمت وينخر رأسها الوجع، من يراها يعتقد انها مريضة.. وقد يتضايق من حزنها.. في حين انا لا اعرف إن كنت أعاني من مرض أم لا؟. هناك شيء ما حصل معي جعلني هكذا أبدو.. الهموم راكدة في داخلي منذ كنت طفلة صغيرة وبدأت أدفع ضريبتها الآن.
الذكريات تنهمر فوق رأسي، صرخات تخرج من أعماقي، تضرب في زنزانة الماضي تود ان تخرج من اسر القيود، جعلت يدي على رأسي خوفا من هروبها، لكنها هربت مني، صرخة لطفولة ماتت ولم تولد، لم أفهم ما هي الطفولة، وما هي ألعاب الأطفال، نعم كنت أنا تلك الطفلة التي لم تلعب بدمية، كانت لعبتها اخيها الصغير، ولم أكن سوى الطفلة التي تعد الطعام، وتغسل الثياب، وتنظف البيت، وترعى الصغار، تحتضن اخوتها الصغار، خوفا عليهم من لسعات البرد، ماذا لو تروني وأنا في ذلك العمر اسير مع اخوتي بظلام الليل!..
تعثرت امي بحظها، بعدما أخرجونا من ديارنا في الظلام الدامس، من دون أب او اخ كبيريحمينا من قسوة الطريق، تقمصت امي دور ابي وانا صرت أمّاً لأخوتي، رموا بنا عند منتصف الطريق، صراخ وعويل، لا ترى غير الاطفال والنسوة، كل منهما اتخذ وادٍ سار فيه، تفرقت الأيادي وبقيت القلوب على عهدها..
وقفت امي على قارعة الطريق لا تعلم اي وادٍ ذي زرع تسلكه فكلها اشواك، ابي كان مهاجرا الى بلد يبعد عن هذا المكان ثلاثة ايام، ماذا نفعل يا أمي، نموت هنا في هذه الصحراء!، نكمل المسير!، يسودها الصمت وعيونها تنطق، اخي كان صغيرا جدا لم يستطع ان يقف على قدميه بعد، حملته على كتفي وامسكت يد اختي، وامي تحمل جنينها واخي على صدرها..
ونهار يذهب ونهار يأتي، ومازالت المسافة كما هي، لكني لمحت أمي وهي تسابق الزمن في خطواتها، كزهرة تقاتل من اجل الربيع، يوم وليلة هذا ما قطعناه من الطريق، جلست امي متعبة لا تقوى على الوقوف، نفذت صحتها وارخت جسدها، سمعنا اصوات مهجرين مثلنا، شعرت وقتها بالامان، طلبوا منا ان نكون معهم، كغريق يتعلق بقشة، تعلقنا بهم، في وقتها كنت أتوقع انني سيئة الحظ لست كباقي البنات، لم يخرجوا مثلنا، تنهدت بحسرة، تُحاول امي ان تهوّن علينا وتعدنا بأننا سنرى آباءنا بعد هذه المصائب.
ارتعش جسدها، خائفة تترقب وصول ابي لأنها دفعت أموالا لينقلوا الخبر الى ابي، دموعها بقيت مُعَّلقة بأهدابها، اطلقت سراح صرختها لكن لا أحد يسمعها، الأصوات في هذا المكان مُبهمة، انتهى الوقت ولم يأتِ ابي بعد.. علت همهمات حولنا، الحدود فتحت أبوابها، سرعان ما علَت الزغاريد وانهالت التهاني على بعضنا، حملت أخي على ظهرها وامسكت يد اختي وطلبت مني الاعتناء بأخي الصغير، واخ لم يولد بعد تحمله امي شارك معنا، وكانوا يقولون لامي ان طفلك هذا سيموت من التعب..
يدها المرتجفة، تقترب من الحدود، رجل كبير من العمر قدم اسماءنا بعدما شعر بالحزن على حالة امي ووضع اخوتي الصغار، لاول مرة شعرت اننا سعداء فكانت اسماءنا اول من سمح لهم بالدخول الى هذه الارض، هنا اكتمل حلم عائلتي، وصل ابي، وصلت السعادة الى امي مسرعة، بعد ايام من الحزن، احتضن ابي عائلته ووزع عليهم قبلاته.
ما زالت رطوبة قبلته على جبيني، من هذا اليوم وانا اتحمل مسؤولية اخوتي، لأن أمي بعدما وصلت انجبت لنا أخا صغيرا.. كان لي كملاك ابيض، تركت المدرسة لان امي مريضة ولا تستطيع العناية بأخواتي لسوء صحتها، هنا بدأتُ اسابق عمري، تركت طفولتي على خارطة الوطن.
كبرت وانا صغيرة، مُتعبةٌ جداً، لا أستطيع النوم دون أن افتقدهم، وفي الصباح الباكر أقف في طابور لجلب الخبز لهم، وبعدما أوصلهم الى مدارسهم، اعود مسرعة خوفا من ان يصحو اخي من نومته.
مرة سألني ابي: _ماذا تتمنين ان تكوني في المستقبل.
في وقتها قلت: _ان اكون في التلفاز.
_ماذا يعني..
قلت له ان اقرأ نشرة الاخبار كهذه المذيعة.. منذ ذلك الوقت طلب ابي ان اقرأ له نشرة الصباح.. يصدح صوتي في البيت، لكن لم يكن الأمر سهلا في البداية، حتى اعتدت على ذلك.
ليس لدي رفيقات، رفيقتي هي امي، وانا رفيقة امي، تحدثني وتعلمني، وتشجعني على ان اكون (ست بيت) ترعى اطفالها وتقوم بواجبات اسرتها، أراجع مع اخوتي الدروس حتى لا انسى القراءة والكتابة، عرفت امي انني حزينة على ترك الدراسة، وطلبت ان تأخذني الى مدرسة علمية، في البداية رفضت المديرة ان تسجلني مع البنات لان عمري كان صغيرا جدا، ووافقت بشرط ان انجح في الدراسة، فعلى حد قولها ان عمري صغير لا يناسب مستوى الدروس التي تعطيها، امي تعرفني جيدا وافقت على شرطها بكل ثقة..
كما قالت امي انني سأتمكن من هذه الدروس رغم صغري، وكانت النتيجة اني نجحت وبمعدل لا يصدق في وقتها، وبعد سنوات تخرجت من هذه المدرسة ودخلت معهد ومدرسة اخرى، والآن احقق ما كنت أتمناه في صغري واتمنى ان ارى جميع اخواتي بخير وفي اعلى المراتب، لانهم ابنائي ايضا..
اتذكر في مثل هذا اليوم، كان اول يوم لنا في الغربة، كما قالت امي، الغربة التي اصبحت لنا وطنا، لم نحتفل بعيد الام في وقتها، وانتظرنا عاما آخر لنحتفل بعيد الام والى يومنا هذا لم يأتِ هذا اليوم، لاننا مازلنا في غربة، الصرخة الاولى نطقت اما الصرخة الثانية فقد قتلتها على يدي من دون ان يسمع عنها احد فتلك هي صرختي!.
ضربت بيدي على تلك المرآة، كيف استطاعت ان تخرج كل هذه الاوجاع بعدما دفنت، من سمح لها ان تغير الصورة! عجوز انا، تنتظر متى يسقط اخر ضرس! متى تحل الضفيرة، متى تترك العصا.. متى تحتضن ايامها وترحل مع اول قطار يمر عليها.
اضافةتعليق
التعليقات