لقد كانت خطبة السيدة العظيمة في لقاء النساء تجسيداً لمنعطف القضية السياسية المركزية التي أدركها الانحراف.. وغزاها الزيغ والجنف في مفازات الأفكار المضادة، وقد أبلغت الزهراء في ذلك ابلاغا مزدوجاً للنساء والرجال معاً.
ولم تكن الخطبة اعتباطية المنشأ ولا عاطفية المصدر، بل كانت تنزع عن احتجاج صارخ لقضية مشروعة، ولكنها في لغة القوم مقاومة صادعة، ومعارضة عارمة في المنظور السياسي، فقد لخصت الزهراء بإمعان عالٍ ما ينتظر الأمة من الفتن وسفك الدماء واستيلاء الفوضى وتردي الاوضاع، فلا الحقوق مصونة من الاغارة ولا الحرمات في ذمام من الهتك، ولا الاحكام وفق الموازين في عدالة اجتماعية.
وانما هو السيف القاطع وسيلان الدم.. والسطوة القاتلة في ظل المعتدى الغاشم، والهرج الدائم الاستمراري واستبداد الظالمين في كل شيء وقد حدث كل هذا فعلا وفوق هذا فالفيء زهيد والجمع حصيد، وقد منعت السماء قطرها، والأرض بركاتها، فكانت الحسرات متلاحقة في الصدور، والآهات مترادفة في الأعماق، والنوازل متتالية في الوقوع حيث لا تنفع الحسرة، ولا تجدي الندامة، وقد عميت عليهم من كل الجهات، فهم في ظلمات يغشى بعضهم بعضا.
وقد أنحت الزهراء في هذه الخطبة باللائمة على قريش في مبادرتها الخطيرة تجاه أهل بيت النبوة... واستعظمت ابتزازها لمنصب خلافة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) استبدادا، دون الالتجاء الى ركن وثيق فيما أقدموا عليه.. ولا تعلق بحبل متين يتشبثون به، وما ذلك إلاّ الأثرة، وحب السلطان وحب القبيلة.
وقال سويد بن عفلة، وهو يتحدث عن جزء من هذا الملحظ من وجه، ومن تأثير الخطبة من اخر، ومؤرخاً لها: (فأعادت النساء قولها على رجالهنَّ... فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يبرم العهد... ويحكم العقد لما عدلنا إلى غيره!.
فقالت الزهراء (سلام الله عليها): "إليكم عني، فلا عذر بعد تعذيركم... ولا أمر بعد تقصيركم"[1]
وكان هذا الرد رفضاً مريراً يحكي عن الواقع الأليم الذي وصل اليه المناخ الاجتماعي المتعثر.
ومع كل هذا الظلم والدناءة التي كانت تحيط بالمجتمع السياسي في ذلك الوقت الاّ اننا شهدنا موقفا عظيما للسيدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مثلت من خلاله الدور السياسي الكبير للمرأة القوية الصارخة بإسم الحق، المدركة بأهمية الموضوع والفاهمة لضرورة الوقوف بوجه الظلم، اذ تجلى ذلك بتصريح ذكي في المشهد السياسي تم من خلاله فضح الهواجس الدنيئة وطرح الأكاذيب الملفقة التي ارادت طمس الهوية الإسلامية من اجل المصالح الشخصية في الساحة.
فإن نساء اليوم لا يُقصرن عن مثل ذلك، وخصوصاً لو كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي القدوة النسوية في محورهنَّ الحياتي، ولكن انعدام الوعي وتحيّز الشعور بالمسؤولية تجاه الإسلام والأمة، وتراجع الروح الرسالية إضافة الى الحواجز النفسية التي صنعتها الثقافة الجاهلية جميعها كانت عوامل مساعدة في خلق هذا البرود الفكري الذي شجع النساء على البقاء بعيداً عن الخوض في الساحات السياسية، لتُصد المرأة عن تفعيل دورها الرسالي في المجتمع.
فحينما تنهض المرأة تعطي زخماً مماثلاً لنهضة الأمة، بينما لو تعطلت عن ذلك لأضحت عقبة في طريق تطور ونهوض الأمة، وعلى النساء اليوم التفاعل اكثر في الميادين السياسية وإبراز الأفكار والتحليلات العميقة التي سترفع من شأن المرأة وتعود بالنفع على المجتمع الاسلامي، ولكي تعود المرأة الى الميادين السياسية بقوة اكبر يجب تذكيرها بالمسؤولية الكبيرة التي تحملها على عاتقها تجاه الإسلام، خصوصاً مع الوضع والتحديات التي نعيشها في الوقت الراهن، والخسارات الكبيرة التي ستلحقها بالأمة والإسلام في حال استمرت على منوال الجهل وعدم ادراك الوضع السياسي الذي تمر به المنطقة، خصوصاً بعد نبذ العلمانية والإصرار على الارتباط العميق الذي يربط الدين بالسياسة.
كما ان السيدة الكريمة كان لها دورا كبيرا في المشاورة، ومن هذا الباب تعتبر الشورى هي ايضاً لون من ألوان المشاركة في إبداء الرأي واتخاذ القرارات التي تهم مصلحة الأمة، وقد أشرك النبي الكريم (ص) النساء وبالأخص فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الشورى من اجل المصالح العامة وفيما يتعلق بشؤون الأمة، كدليل على أهلية المرأة في إعطاء المشورة وتنفيذ ما تشير به، ان كان الرأي ينسجم مع المصلحة العامة، كما هو الأمر في استشارة الرجل.[2]
ومن هذا المنظور نستنتج بأن المرأة تعكس على المجتمع دورا سياسيا عميقا، ومن خلاله تترك اثرا بالغا يرفع من همم الأمة ويزيد من قوتها.. فالدور الكبير الذي لعبته السيدة الزهراء يبين لنا أهمية موقع المرأة في المجتمع وما يمكن ان تسعى اليها في ضغون التحديات التي تواجهها في العالم.
اضافةتعليق
التعليقات