يُقال إنّ أيّ شيءٍ تفعله أكثر من ثلاث مرات يصبح عادة، والعادة هي الشيء المألوف الذي يفعله الإنسان من دون تفكير، ولا يشعر تجاهه بضيق أو تعب. فكيف لو كانت هذه العادة هي انسلاخ الإنسان عن نفسه ليجد أنه أصبح شخصًا آخر لا يشبهه في نهاية المطاف، سواء في الشكل أو الأسلوب؟ إنّ كثرة التقليد جعلته ينسى شخصيّته الأولى، وأضحى مجرّد "ترند" لا يعرف مصدره، في وقتٍ أصبحت فيه "التريندات" ظاهرةً وجوديّة تُعبّر عن تحوّلٍ جذري، ولم تَعُد مجرّد موضة عابرة، بل تحوّلت إلى مرآةٍ تعكس هشاشة الهوية الفرديّة أمام إغراءات القطيع الرقمي.
فما إن يبزغ ترندٌ جديد، وإنْ كان غامض الدلالة أو مُلغز الرسالة، حتى تتحوّل المنصّات إلى سربٍ من الناس يردّدون الحركات نفسها، وينسخون العبارات، وكأنهم يخشَون أن يُستبعدوا من "نادي الشعبويّة الإلكترونيّة" إنْ هم تأخّروا عن الركض في سباقٍ لا يعرفون خطّ نهايته.
والأمر الأكثر إثارةً للدهشة أن بعض هذه التريندات يعبر حدود اللغات والثقافات، فتجد جمهورًا عربيًّا يردّد كلماتٍ إنجليزيةً بينما عقولهم عاجزةٌ عن فهم معانيها، أو يُشاركون في رقصة مقتبسة من ثقافة لا يعرفون عنها إلا إيقاعها المُعدي.
هنا يتحوّل الاتباع إلى نوعٍ من "العبوديّة الطوعيّة"، حيث يضحي الفرد بوعيه لغرض الاندماج في قطيع "اللايكات"، وكأنّ قيمته صارت تُقاس بعدد المرّات التي يُقلّد فيها الآخرين، بينما الذين زارهم الوعي ينظرون إلى المشهد متسائلين: أين اختفى توقُ الإنسان إلى أن يكون ذاتًا لا صدى؟ وكيف أصبحت الفلسفة الوحيدة المنتشرة هي: "خذني حيث يأخذك التيار"؟
التواصل الاجتماعي بين إرشادات أهل البيت وعصر التريندات
هنا تكمن الإجابة عن سؤالنا، حيث إننا كلما أضعنا الطريق، كانت بوصلة آل بيت النبي ترشدنا دومًا، من خلال تقديم رؤيةٍ متوازنة للتواصل الإنساني، فتكون مفتاحًا لتعاملٍ واعٍ مع وسائل التواصل الحديثة. ففي الوقت الذي تتصارع فيه المبادئ مع ضغوط الشهرة العابرة، حرص أهل البيت (عليهم السلام) على ترسيخ أسس التواصل الإنساني القائم على الإخلاص والاحترام. ومن أبرز مبادئهم:
الصدق والابتعاد عن الزيف
كما في قول الإمام علي (عليه السلام): "اصبر على مرارة الحق، وإياك أن تنخدع لحلاوة الباطل". ففي زمنٍ تنتشر فيه الأخبار الكاذبة بلمسة زر، يذكّرنا هذا المبدأ بضرورة تحرّي الدقة وتجنّب المشاركة في نشر الشائعات، واتباع كل هزلٍ لمجرد أنه الأبرز.
الكلام النافع
كما في قول الرسول (صلى الله عليه وآله): "الكلمة الطيبة صدقة". فليس كل صمتٍ فضيلة، ولا كل كلامٍ مباح. إنّ اختيار العبارات التي تُنمّي الخير وتُصلح المجتمع هو جوهر التواصل الفعّال وأساس الرشاد.
الحفاظ على الكرامة
حذّر الأئمة من الاستهانة بالذات أو بالآخرين، سواء بالاستهزاء أو التعليقات الجارحة، وهي سلوكياتٌ تتفشّى في التعليقات الإلكترونية تحت شعار "حرية التعبير"، أو هي ترينداتٌ لا تمتّ إلى الاحترام بصلة، وأحيانًا تحتوي على تشجيعٍ لإهانة الآخرين دون إدراك أن هذا الفعل قد يُنتج عنه عادةٌ سيّئة تلازم الإنسان.
تعزيز الروابط الاجتماعية
شدّد آل بيت النبي (صلوات الله عليهم) على صلة الرحم ومساعدة المحتاج، وهو ما يمكن تطبيقه إلكترونيًا عبر دعم القضايا الإنسانية، ومدّ جسور التعاون بدل الصراعات.
عصر التريندات: بين الانبهار والانحراف
في الوقت الذي تحوّلت فيه منصات التواصل إلى ساحةٍ تسودها "التريندات" التي تختفي بسرعة ظهورها، خُلقت تحدّياتٌ خطيرة تجعل الإنسان تائهًا لا يعرف أيّ طريقٍ يسلك. وهنا يكمن السؤال المهم: كيف نوفّق بين الإرشاد والتريند؟
وللاستفادة من إيجابيّات التواصل الحديث دون التنازل عن المبادئ، يُقترَح ما يلي:
التأكّد قبل المشاركة:
يقوم الشخص بتفحّص مصادر المعلومات ومآلاتها، والانتباه إلى كل تفاصيلها قبل النشر أو التفاعل معها.
تحويل التريندات إلى منصات خير:
كما حوّل الإمام الحسين (عليه السلام) كربلاء إلى درسٍ في التضحية، يمكن استغلال "التريندات" لنشر التوعية أو جمع التبرعات.
التوازن بين الواقع والافتراضي:
كما في قول أبي عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من عمل على غير علم، كان ما يُفسده أكثر مما يُصلح". فالعالم الافتراضي إن لم تكن واعيًا، عارفًا ما فيه، ستسلك مسالك التيه في ثناياه، وقد يُفقد الإنسان نفسه.
التمييز بين الحرية والانحدار:
إنّ حرية التعبير وفق رؤية أهل البيت لا تعني تجاوز الأخلاق، بل تعني تحمّل المسؤولية في اختيار الكلمات التي تُعبّر عن الهوية من دون إساءة. ففي النهاية، التواصل الهادف هو جسر بين الماضي والمستقبل، وليست "التريندات" شرًّا مطلقًا، فقد تكون وسيلةً لنشر الخير إذا حكمتها ضوابط القيم.
وبإمكان إرشادات أهل البيت (عليهم السلام) أن تشكّل خريطةً أخلاقية نعبر بها ضجيج العالم الرقمي، فنُحوّله من فضاءٍ للصراعات إلى منصّةٍ للبناء. فلتكن ممن يُصلحون حين يُفسده الآخرون. فكل شيء يبدأ بفكرة، لذلك راقب أفكارك لأنها ستصبح كلمات، وراقب كلماتك لأنها ستتحوّل إلى أفعال، وراقب أفعالك لأنها ستتحوّل إلى عادات، وراقب عاداتك لأنها تكون شخصيّتك، وراقب شخصيتك لأنها ستُحدّد مصيرك.
اضافةتعليق
التعليقات