ذهبت غالبية الأصوات المطالبة بتخفيف العبء البشري على المناخ إلى ضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية من جهة، وإلى تجنب المشاركة في حدوث ظواهر بيئية متطرفة، لكن للعلماء وأصحاب الطب النفسي رأياً آخر في ما يجري، إذ ينوه علماء النفس وخبراء الاقتصاد السلوكي بوضوح اليوم إلى الطرق التي يؤدي بها ارتفاع درجات الحرارة إلى حدوث زيادات في كل شيء حرفياً، من السلوكيات العدوانية وأبرزها العنف المنزلي، إلى خطاب الكراهية عبر الإنترنت، وصولاً إلى الاضطرابات النفسية.
الآثار الصحية طويلة المدى
وبعيداً من التأثيرات الفورية الناجمة عن الأحداث البيئية المتطرفة، يشير الباحثون إلى مجموعة من الآثار الصحية طويلة المدى التي ستنتج من اختلال النظم الغذائية، والاتصال الوثيق بين الحيوان والإنسان، وزيادة الأمراض المنقولة بواسطة الحشرات، ويشمل ذلك أيضاً عدداً من الأمراض والحالات التي لا نعتقد عادة أنها مرتبطة بالمناخ، مثل مرض الزهايمر ومرض باركنسون.
ويؤثر تغير المناخ والتدهور البيئي في ظروف زراعة عدد من المحاصيل، وبحسب برنامج الأغذية العالمي، بحلول عام 2050 قد يرتفع خطر الجوع وسوء التغذية بنسبة 20 في المئة، وتقول منظمة الصحة العالمية إنه من المتوقع أن يتسبب تغير المناخ في وفاة ما يقارب 250 ألف شخص إضافي سنوياً بسبب نقص التغذية والملاريا والإجهاد الحراري، إذ يخلص تقرير حديث للمنتدى الاقتصادي العالمي بعنوان "قياس أثر تغير المناخ في صحة الإنسان"، إلى أن تغير المناخ سيتسبب بحلول عام 2050 في وفاة 14.5 مليون شخص وفقدان أكثر من ملياري سنة من سنوات الحياة الصحية.
في سياق متصل يكشف تقرير لـ"الغارديان" كيف تؤثر أزمة المناخ في أدمغتنا، طارحاً تساؤلات مثيرة للانتباه، "هل ترتبط المعدلات المتزايدة للقلق والاكتئاب واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطراب ما بعد الصدمة والزهايمر والأمراض العصبية الحركية بارتفاع درجات الحرارة والتغيرات البيئية المتطرفة الأخرى؟".
تأثير الضغط في الجنين
يستند التقرير إلى بحث أجراه أحد علماء الأعصاب مستفيداً من تساؤلات طرحها بعد الإعصار المدمر الذي ضرب مدينة نيويورك أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2012، وألحق أضراراً قدرت بأكثر من 60 مليار دولار، وقتل عشرات وأجبر 6500 مريض على إخلاء المستشفيات ودور رعاية المسنين.
أراد العلماء معرفة ما إذا كان الإجهاد السابق للولادة عند النساء الحوامل خلال فترة العاصفة، قد أثر بشكل مختلف في الأجنة، مقارنة بالأطفال الذين ولدوا قبل العاصفة، كان هدف الاستنتاجات معرفة التأثير المحتمل للضغط والإجهاد في الجنين في رحم أمه، بالاعتماد على المجال المتطور لعلم ما فوق الجينات، وسعى العلماء إلى فهم الطرق التي يمكن من خلالها للضغوطات البيئية أن تحفز التغيرات في التعبير الجيني، بعد ثبوت تأثيرها سابقاً في سلوكيات عصبية معينة في مرحلة الطفولة، مثل التوحد والفصام واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط.
وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن، كشفت الاستنتاجات عن تباين مذهل، فالأجنة الذين شهدت أمهاتهم إعصار "ساندي" يحملون اليوم احتمالات عالية جداً للإصابة بالحالات النفسية، على سبيل المثال بدت على الفتيات اللاتي تعرضت أمهاتهن للعاصفة قبل الولادة زيادة في القلق بمقدار 20 ضعفاً وزيادة في الاكتئاب بمقدار 30 ضعفاً مقارنة بالفتيات الأخريات.
بينما كان الأولاد معرضين لخطر الإصابة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطراب السلوك بنسبة 60 ضعفاً، وغالباً ما ظهرت أعراض هذه الحالات في وقت مبكر من مرحلة ما قبل المدرسة.
تحولات في أدمغتنا
وبحسب التقرير تروي استنتاجات هذا البحث قصة تقول إن تغيرات المناخ لا تشكل البيئة التي نعيش فيها فحسب، بل تحفز تحولات عميقة وملموسة في أدمغتنا. ففي حين يمر العالم بتحولات بيئية جذرية تغير المشهد العام، كذلك ينعكس التأثير في مشهدنا العصبي، فما يحدث في الخارج يحدث أيضاً في الداخل.
والتغيرات الناجمة عن الوقود الأحفوري من ارتفاع درجات الحرارة إلى ظواهر الطقس القاسية، إلى ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، تعمل على تغيير الحالة الصحية لأدمغتنا، وتؤثر في كل شيء من الذاكرة والوظيفة التنفيذية إلى اللغة وتشكيل الهوية، وحتى بنية الدماغ ذاتها.
كما وضح علماء الأعصاب الإدراكية الطرق التي تؤدي من خلالها الحرارة الشديدة وارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون إلى إضعاف عملية اتخاذ القرار، وتقليل قدرات حل المشكلات وإعاقة قدرتنا على التعلم.
وأكدوا كذلك أننا لسنا بحاجة إلى خوض الحرب حتى نعاني اضطراب ما بعد الصدمة، فعنف الإعصار أو حرائق الغابات تقوم بالمهمة، وهذا يفتح باباً واسعاً للوراثة ما بعد الجينية، أي أن تأثرنا بالظروف الخارجية غير مرهون بتاريخ ولادتنا.
الإجهاد الحراري
وبحسب "الغارديان" يبدو أن كادر علماء الأعصاب المهتمين بربط النقاط بين الصحة البيئية والعصبية يتزايد مع الوقت، ولكن هذا المجال الذي يطلق عليه علم الأوبئة العصبية المناخية لا يزال في مراحله الأولى، والحقيقة أن عدداً من التأثيرات التي سجلها الباحثون تبدو بدهية بعض الشيء، فغالبيتنا لاحظ أنه عندما يصبح الطقس أكثر رطوبة، فإن التفكير يحدث له الأمر ذاته، وهذا ليس من قبيل الصدفة.
على سبيل المثال لاحظ علماء الأوبئة في جامعة هارفارد أن طلاب الجامعات الذين يعيشون في مساكن الطلبة من دون مكيفات الهواء، خلال موجة الحر في صيف عام 2016 في بوسطن، جاء أداؤهم في الاختبارات المعرفية القياسية أبطأ مقارنة بأقرانهم أصحاب الغرف المزودة بالمكيفات.
وفي هذا السياق يؤكد العلماء أن الأداء المعرفي هو قمة جبل الجليد، فما خفي أعظم، إذ يشير علماء الأعصاب إلى مجموعة متنوعة من تأثيرات الحرارة الشديدة في السلوك، ومن الملاحظ ارتفاع درجة المشاعر العدوانية في الأيام الأكثر حرارة حتى عند الحيوانات، إذ تميل عناكب الأرملة السوداء نحو أكل لحوم البشر بسرعة أكبر، وتخوض قرود الريسوس مزيداً من المعارك مع بعضها بعضاً في ظروف الحرارة المرتفعة، وكذلك وجد باحثون كوريون أن الإجهاد الحراري يؤدي إلى التهاب في الحصين لدى الفئران، وهي منطقة دماغية ضرورية للتخزين في الذاكرة، كما أن الحرارة الشديدة تقلل من التواصل العصبي في سمك الدانيو المخطط (الذي يدرس بانتظام من العلماء المهتمين بوظيفة الدماغ).
الآثار التنكسية العصبية
أما عند البشر فتبدو الروابط الوظيفية بين مناطق الدماغ أكثر عشوائية عند درجات الحرارة المرتفعة، أي أن الحرارة تحد من مدى تنسيق نشاط الدماغ، إذ يتعرض العاملون في خدمة البريد في الولايات المتحدة لمضايقات وحوادث تمييز وتعصب أكثر بنسبة خمسة في المئة تقريباً في الأيام التي تزيد فيها درجة الحرارة على 32 درجة مئوية، مقارنة بالأيام المعتدلة.
ويهتم العلماء بشكل خاص بالآثار التنكسية العصبية الناجمة عن أزمة المناخ، التي ترجع جزئياً إلى فرضية أن التعرض لفترات طويلة للحرارة يمكن أن ينشط في حد ذاته عدداً من المسارات البيوكيمياوية المرتبطة بالأمراض التنكسية العصبية مثل مرض الزهايمر ومرض باركنسون، (الأمر ذاته يقوم به تلوث الهواء)، وبالتالي مع استمرار حرق الوقود الأحفوري، سينتج مزيد من الخرف، في حين يتوقع ومن دون أخذ أزمة المناخ في الاعتبار، أن يتضاعف عدد الأشخاص المصابين بمرض الزهايمر ثلاث مرات بحلول عام 2050، وهذا أمر خطر، إذ تعد مثل هذه التحديات المتعلقة بالنمو العصبي ضخمة جداً في ضوء التوقعات المناخية.
وبحسب التقرير من المحتمل أن تعمل أجندة البحث في علم الأوبئة العصبية المناخية على الربط بين مجالات ومستويات تحليل متعددة، بحيث يدمج هذا المشروع رؤى من علم الأعصاب والكيمياء العصبية والعلوم البيئية وعلم الأعصاب الإدراكي والاقتصاد السلوكي، للوصول إلى فهم واضح عن الكيفية التي تؤثر من خلالها الضغوط البيئية الخارجية في صحة الدماغ والنمو المعرفي. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات