غالبا ما نعتبر قدرتنا على البقاء متيقظين وساما على صدورنا ومؤشرا على أن أيامنا تحفل بالعمل والنشاط. وعلى مر التاريخ، تباهت شخصيات شهيرة، مثل توماس أديسون ومارغريت ثاتشر ودونالد ترامب، بأن كلا منها لا ينام سوى أربع أو خمس ساعات في الليلة لا أكثر، وهو ما يقل كثيرا عن الفترة الموصى بها للبالغين، والتي تتراوح ما بين سبع إلى تسع ساعات كل ليلة.
ويسير كثير منّا على الدرب نفسه، فبحسب أرقام رسمية في الولايات المتحدة، لا يحصل ثلث الأمريكيين البالغين على قسط كافٍ من النوم، وبشكل منتظم أيضا.
ورغم أن العواقب السلبية المترتبة على ذلك لا تخفى على أحد، من ضعف للذاكرة وتدهور للقدرة على اتخاذ قرارات صائبة وتزايد احتمالات الإصابة بالأمراض وبالبدانة كذلك، فمن اليسير على المرء أن يتجاهل هذه المخاطر. فعندما تتطلب احتياجاتك الضرورية وقتا يزيد على الفترة التي يُفترض أن تظل مستيقظا فيها خلال يومك، فسيكون النوم هو أول ما تضحي به لتلبية هذه الاحتياجات.
لكن ماذا إن صار بوسعنا أن نجعل فترة النوم أقرب ما تكون إلى الكمال، ما يجعلنا نجني غالبية الفوائد الكامنة فيها، لكي ننام بعمق ولوقت أقل؟ ربما تكون هذه الإمكانية في متناولك أكثر مما تتخيل، وذلك بفضل أساليب جديدة ترمي إلى "الاستفادة بالقدر الأمثل من فترة النوم".
وقد أظهرت تجارب متنوعة أُجريت في شتى بقاع العالم، أنه من الممكن تعزيز كفاءة نشاط المخ خلال فترة الليل، ما يقلل الوقت الذي يتطلبه الاستغراق في نوم عميق، ويزيد من قدر الراحة الذي ننعم به بمجرد وصولنا إلى هذه المرحلة.
يمر نشاط المخ خلال الليل عادة، بدورات تختلف باختلاف مراحل النوم، وتتسم كل منها بنمط مميز من "الموجات الدماغية". وتشهد كل من هذه الموجات إطلاق الخلايا العصبية، في مناطق مختلفة من الدماغ، إشارات بشكل متزامن وبإيقاع معين (على نحو يشبه ترديد حشد من الناس لهتاف في وقت واحد أو قرعهم الطبول بشكل منسجم).
ويتصف هذا الإيقاع بالسرعة النسبية، خلال ما يُعرف بمراحل "نوم حركة العين السريعة"، التي نرى فيها الأحلام غالبا. لكن أعيننا تتوقف عن الحركة في أوقات معينة، لتتلاشى الأحلام ويتراجع إيقاع الموجات الدماغية، إلى أقل من "نبضة" واحدة في الثانية، وهي النقطة التي ندخل فيها أعمق مرحلة من اللاوعي يمكننا الوصول إليها، وهي تلك التي تنعدم فيها الاستجابة إلى أقصى حد، ويُطلق عليها اسم "نوم الموجة البطيئة". وتشكل هذه المرحلة محط اهتمام خاص، من جانب العلماء الذين يبحثون في سبل الاستفادة من النوم على أفضل شكل ممكن.
وأظهرت الدراسات التي أُجريت منذ ثمانينيات القرن الماضي، أن "نوم الموجة البطيئة" أمر أساسي للحفاظ على الدماغ في حالة جيدة، إذ يسمح للمناطق المسؤولة عن الذاكرة في المخ، بنقل ذكرياتنا من مرحلة التخزين في الذاكرة قصيرة الأمد إلى نظيرتها في الذاكرة طويلة المدى، وهو ما لا يجعلنا ننسى ما تعلمناه.
ويقول يان بورن، المسؤول عن قسم علم النفس الطبي وعلم الأعصاب السلوكي في إحدى الجامعات الألمانية، إن "الموجات البطيئة تُسهّل نقل المعلومات".
كما أن هذه الموجات قد تؤدي إلى تدفق الدم والسائل الدماغي عبر مناطق المخ المختلفة، ما يؤدي إلى التخلص من مواد يحتمل أن تكون ضارة، وربما تؤثر سلبا على الجهاز العصبي. ويفضي ذلك أيضا إلى تراجع مستويات هرمون الكورتيزول، الذي يُفرز استجابةً للشعور بالإجهاد والتوتر. كما يساعد هذا الأمر على تنشيط الجهاز المناعي، ما يجعله أكثر قدرة على مواجهة أي عدوى محتملة.
وحدت نتائج مثل هذه بعلماء - من بينهم بورن - إلى التساؤل عما إذا كان بوسعهم الاستفادة منها في تعظيم فوائد النوم، وتحسين قدرة المرء على القيام بواجباته ومهامه خلال ساعات النهار، عبر زيادة توليد هذه الموجات البطيئة في الدماغ.
ويعمل أحد أكثر الأساليب الواعدة في هذا المضمار، بطريقة تجعله كما لو كان أداة تضبط الدماغ على الإيقاع الملائم له من هذه الموجات. وفي إطار التجارب التي تُجرى في هذا الشأن، يعتمر الخاضعون للبحث جهاز استقبال لرصد نشاط الدماغ، وتحديد الأوقات التي يشهد فيها المخ حدوث هذه الموجات البطيئة. ثم يبدأ الجهاز بعد ذلك في إصدار نبضات قصيرة ذات صوت مريح وغير مزعج، تتزامن مع الموجات البطيئة التي تتولد في الدماغ بشكل طبيعي، وذلك على فترات منتظمة خلال الليل.
وتتسم هذه الأصوات بأنها منخفضة إلى حد يجعلها لا تزعج المشاركين في البحث، ومرتفعة في الوقت نفسه كذلك بقدر كاف، لأن يرصدها المخ على نحو غير واع.
ووجد بورن - الذي قاد غالبية هذه الأنشطة البحثية - أن هذا التحفيز السمعي المريح واللطيف، يكفي لتدعيم ما يمكن أن يُعرف بالإيقاعات الصحيحة للدماغ، وهو ما يجعل "نوم الموجة البطيئة" في هذه الحالة أكثر عمقا من نظيره الذي يحظى به من تم استخدام أساليب تحفيز وهمية معهم.
وتبين أيضا أن أفراد العينة ممن ارتدوا أجهزة الاستقبال أدوا بشكل أفضل في اختبارات الذاكرة، وأظهروا قدرة أكبر على تذكر المواد التي تعلموها قبل يوم واحد من خضوعهم للتجربة. كما تحسنت استجابة الجهاز المناعي لديهم، وتغير التوازن الهرموني في أجسامهم، بما شمل تراجع مستوى الكورتيزول.
وحتى هذه اللحظة، لم يسجل المبحوثون صدور أي استجابات غير مرغوب فيها، نتيجة لاستخدامهم هذا الأسلوب في تحفيز الموجات البطيئة في الدماغ.
وأُجريت غالبية الدراسات الرامية لتعزيز "نوم الموجة البطيئة" على مجموعات من الشبان الأصحاء، تتكون كل منها من عدد محدود من الأفراد. لذلك ثمة حاجة لإجراء تجارب أوسع نطاقا على مجموعات أكثر تنوعا، حتى نصبح على يقين من طبيعة الفوائد الناجمة عن تعزيز "نوم الموجة البطيئة".
رغم ذلك كانت نتائج الدراسات التي أُجريت حتى الآن كافية، لأن يُستعان بتلك التقنية في تطوير عدد من الأجهزة التي تُباع في الأسواق للمستهلكين. وتأخذ غالبيتها شكل عصّابات رأس يتم ارتداؤها خلال الليل.
لماذا يحتاج الإنسان للنوم؟
لم يتوصل العلم بعد إلى السبب الرئيسي الذي يدفعنا للنوم، لكنه يبقى مهما للغاية، فهو ليس "راحة سلبية" يقضيها الجسم في كسل، وإنما عملية "تجديد وصيانة" متواصلة طوال ساعات الليل في الدماغ، إضافة إلى فوائد أخرى تجعله خير دواء.
نقضي نحو ثلث حياتنا مستغرقين في النوم الذي يبقى مهماً كتناول الطعام والشراب والتنفس، فهو ليس "راحة سلبية" فقط، كما يقول المصطلح العلمي، بل أكثر من ذلك بكثير، فهو أيضاً نوع من وضع توفير الطاقة البيولوجي. فحين ننام نستهلك مقداراً أقل من طاقة الجسم مقارنة باليقظة. ولم يتوصل العلماء بعد إلى الحقيقة الكاملة وراء الحاجة للنوم، على الرغم من أن الكثير من الدراسات تشير إلى أن الدماغ هو المسؤول عن حاجتنا إلى النوم. فما الذي يحدث بالضبط في رؤوسنا أثناء النوم؟
عن ذلك يقول الباحث في بيولوجيا الأعصاب في جامعة توبنغن الألمانية ألبريشت فورستر: "ليلاً تبدأ عمليات كثيرة داخل الدماغ، وهي أثناء النوم أكثر من أي وقت آخر في حياتنا". حين نكون مستيقظين، يتم بناء اتصالات جديدة بين الخلايا العصبية. وحين ننام تبدأ عمليات إعادة البناء والترتيب. ويضيف فورستر لموقع "شبيكتروم" الألماني بالقول: "النوم شيء يشبه الغسل والقطع والترتيب في الدماغ".
ويوضح العالم الألماني: "يتم اختبار الصلات بين الخلايا العصبية في أدمغتنا وإعادة تعديلها بحيث لا تستهلك الكثير من الطاقة ومعالجة المعلومات دون معوقات. كل ما تم بناؤه وربطه أكثر من اللازم خلال اليقظة والعمل اليومي، يتم تقليصه مرة أخرى. في الوقت نفسه يجري كنس فضاء عقولنا: كل ما تبقى هناك من بقايا البروتينات والعمليات العصبية سيتم التخلص منه".
ترتيب الذكريات
يلعب النوم أيضاً دوراً مهماً في إعادة توزيع ذاكرتنا وتثبيت المعلومات فيها. فالنوم يعيد تنظيم محتوى ذاكرتنا من معلومات ويحولها إلى معرفة عالية الجودة. عن ذلك يقول فورستر: "من المفترض أن تكون معظم الذكريات في متناول اليد أثناء النوم". كيف هذا؟ أثناء النوم يوجد تبادل نشط بين مناطق المخ المختلفة: الحُصين ، وهو إلى حد ما المفكرة في دماغنا ، يلاحظ أي التجارب مهمة ويعطي خلال النوم القشرة الدماغية نبضات لعرضها من جديد مراراً وتكراراً وتثبيتها وربطها ببعضها البعض".
وأثناء عملية التخزين هذه تكون ذاكرتنا ضعيفة للغاية، وعليه فمن غير المسموح أن تعترضها تجارب جديدة قد تتداخل معها. "لهذا السبب فإننا نفقد القدرة على الوعي والإدراك في نومنا"، يقول فورستر مضيفاً أن "تنسيق القرص الصلب لا يعمل إلا إذا توقفت عن إعطاء إيعازات جديدة".
توازن مهم
من الواضح أن النوم يضطلع بدور أساسي لعمل الدماغ، إذ يضمن أن يعمل النظام على النحو الأمثل وأن المخ لا يخرج عن توازنه. عن ذلك يقول فورستر: "يبدو أن الصحوة تضع الجسم بشكل متزايد في اختلال التوازن المادي". بدون نوم تكون العلاقة بين خلايا الأعصاب لدينا غير متوازنة، وكذلك مقدار الناقلات العصبية، وهي الناقلات العصبية التي يتم إطلاقها لنقل الإشارات بين الخلايا العصبية.
ولا يؤثر عدم التوازن على تفكيرنا فقط، وإنما على مزاجنا أيضاً، إذ نصاب باختلال التوازن عاطفياً، لأننا نفتقر إلى الضبط الدقيق الذي لا يتم إلا من خلال النوم. وتصبح أهمية العمليات التي تحدث أثناء النوم واضحة عندما لا تعمل بالشكل الصحيح. إذا لم يتخلص المخ من رواسب البروتينات، فسوف يتراكم ويتداخل ويقتل الخلايا العصبية. وقد وجد العلماء مثل هذه التراكمات البروتينية في أدمغة المصابين بالأمراض التنكسية العصبية مثل مرض الزهايمر والشلل الرعاش "باركسون".
النوم خير دواء
كما يحتاج الجسم أيضاً إلى النوم من أجل تجديد كل شيء فيه، فمثلاً إصلاح الخلايا ونموها يزداد ليلاً. النوم المريح يحافظ أيضاً على توازن السكر في الدم واستقلاب الدهون لدينا ويقيد شهيتنا. وأولئك الأشخاص الذي يعملون في ورديات ليلية بشكل منتظم هم أكثر عرضة لخطر الإصابة بالنوع الثاني من مرض السكري والسمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية.
هل تمنعنا الكمبيوترات اللوحية من النوم؟
بالمناسبة فإن النوم يؤثر أيضاً على قوة جهازنا المناعي، فحين ننام، تستعد الخلايا المناعية لليوم التالي وتتبادل المعلومات عن الفيروسات الدخيلة لتشكّل بذلك عماد الذاكرة المناعية. حين يصيب الجسم الفيروس الدخيل نفسه لمرتين، ففي المرة الثانية تكون استجابة الخلايا المناعية أسرع وأكثر كفاءة من المرة الأولى.
وقد يكون النوم "شراً لا بد منه" بالنسبة لبعض الأشخاص الذي يواصلون الليل والنهار عملاً، إلا أن الحقيقة تقول إنه يبقى جزء ضرورياً من حياتنا. وحين لا ننام فإننا نخسر نصف حياتنا، وربما حياتنا بأسرها.
اضافةتعليق
التعليقات