لا تزال هناك مجتمعات كثيرة تنظر إلى انقطاع الطمث على أنه بمثابة نهاية لحيوية المرأة بل وهويتها، ما يجعل كثيراً من النساء يلتزمن الصمت عندما يواجهن هذه المرحلة ولا يتحدثن عما يعانين منه من أعراض خشية التعرض لأحكام قاسية من الآخرين.
وفي بعض من الأحيان، نظراً لغياب الوعي والتوعية، لا يدرك عدد كبير من النساء أن ثمة علاقة بين ما يتعرضن له من أعراض وانقطاع الطمث.
ورغم شيوع أعراض تلك المرحلة وتبعاتها التي قد تكون خطرة في بعض الأحيان على صحة المرأة، إلا أن الأبحاث في هذا المجال لا تحظى بتمويل كافٍ وكثيراً ما يتم التغاضي عنها. وانقطاع الطمث ليس له تأثيرات فقط على جسد المرأة، ولكن على دماغها أيضاً.
فما هذه التأثيرات؟ وكيف تحدث؟ وهل هناك طرق للتخفيف منها وتحسين صحة المرأة في هذه المرحلة؟
لطالما كان التصور السائد في الدوائر الطبية والثقافة الشعبية عن انقطاع الطمث هو أنه فترة تدهور صحي للمرأة "وانخفاض لقيمتها كأنثى مع انتهاء خصوبتها" وفقدانها القدرة على الإنجاب – وكان يوصف بأنه "جحيم النساء" و"موت الجنس".
وبشكل عام، ظل مصطلح انقطاع الطمث غائباً عن الطب حتى القرن التاسع عشر. وكان الطبيب الفرنسي شارل بيير لوي دو غاردان هو أول من ابتكر مصطلح menopause، إذ استلهمه من اللغة اليونانية التي تعني فيها كلمة men "شهر"، وكلمة pausis "توقف أو انقطاع". خلال العصر الفيكتوري في بريطانيا في القرن التاسع عشر، كان الأطباء ينظرون إلى المرأة التي تمر بهذه المرحلة على أنها "غير مستقرة عقلياً".
وفي كتابه Feminine Forever ("أنثى إلى الأبد") الذي حقق مبيعات هائلة بعد صدوره عام 1966، وصف طبيب النساء الأمريكي روبرت أ. ويلسون النساء اللاتي انقطع لديهن الطمث بأنهن "مخصيات". ومع اكتشاف العلاقة بين انقطاع الطمث وهرمون الإستروجين في ستينيات القرن الماضي، بات انقطاع الطمث يوصف بأنه "مرض نقص الإستروجين".
وتحول الإستروجين إلى عقار سحري ومربح تهافتت شركات الأدوية على إنتاج نسخة بديلة له من خلال ابتكار ما بات يعرف بالعلاج بالهرمونات التعويضية أو البديلة.
هناك نسبة صغيرة من النساء "سعيدات الحظ" – يقدرها باحثون بنحو 10-15 في المئة – اللاتي لا يعانين من أي أعراض جراء انقطاع الطمث. لكن الغالبية العظمى تعاني من مجموعة من الأعراض الجسمانية، بل والعصبية التي تؤثر على الدماغ، تختلف تنويعاتها من امرأة إلى أخرى. وتجد كثير من النساء صعوبة في التعامل مع بعض الأعراض لشدتها، إلى درجة قد تشعرهن بأنهن قاب قوسين أو أدنى من فقدان صوابهن.
ولم تُكتشف الطرق التي يؤثر من خلالها الإٍستروجين على الدماغ إلا في أواخر التسعينيات، إذ توصل العلماء إلى أن ما يطلق عليها هرمونات الجنس (وعلى رأسها الإستروجين) لدى المرأة - ذات أهمية بالغة ليس فقط للإنجاب والخصوبة، ولكن لوظائف الدماغ كذلك.
البروفيسورة ليسا موسكوني الأستاذة المساعدة المختصة في علم الأعصاب والأشعة ومديرة "مبادرة دماغ المرأة" وبرنامج الوقاية من الزهايمر بكلية وايل كورنيل للطب في نيويورك، ومؤلفة كتاب The Menopause Brain ("دماغ انقطاع الطمث") الذي صدر في وقت سابق من العام، كانت من أوائل الباحثين الذين درسوا الكيفية التي يتغير بها دماغ المرأة خلال فترة انقطاع الطمث.
وقالت موسكوني لـ بي بي سي عربي إن "دماغ انقطاع الطمث" هو "مصطلح غير طبي يصف الأعراض العصبية التي تتعرض لها نساء كثيرات خلال تلك المرحلة.. أعراض من قبيل الهبّات الساخنة والتعرق الليلي والأرق وضعف الذاكرة وضبابية الدماغ وصعوبة التركيز واضطرابات المزاج مثل التوتر والحزن. وأعراض الاكتئاب لا علاقة لها بالمبيضين، لكنها متجذرة في التغيرات العصبية التي تصاحب انقطاع الطمث. ويتحدث أكثر من 80 في المئة من النساء اللاتي يخضن مرحلة ما قبل انقطاع الطمث أو ما بعدها عن إصابتهن بواحد من تلك الأعراض على الأقل".
ويلعب هرمون الإستروجين، وفق البروفيسورة موسكوني، "دوراً في غاية الأهمية في بنية الدماغ ووظائفه. فهو يدعم مناطق حيوية من الدماغ تتحكم في الذاكرة والتعلم والمرونة الإدراكية. وعندما تبدأ مستوياته في الانخفاض أثناء انقطاع الطمث، من الممكن أن تتأثر تلك المناطق سلبياً، ما يؤدي إلى تحديات إدراكية يصفها كثيرون بمصطلح دماغ انقطاع الطمث".
تتحدث موسكوني في كتابها باستفاضة عن فوائد الإستروجين، إذ يعزز الأيض ويحمي من زيادة الوزن ومقاومة الإنسولين والإصابة بالنوع الثاني من مرض السكري. كما يساعد في تعزيز صحة العظام والقلب والأوعية الدموية ونظام المناعة ويزود خلايا المخ بالقدرة على مكافحة التلف والشيخوخة ويساعد في إنتاج خلايا دماغية جديدة.
"تاريخياً"، تقول موسكوني، "كان يقال للنساء عندما يتحدثن عن صحتهن الإدراكية خلال انقطاع الطمث إن ذلك محض تخيلات، ولكننا لدينا الآن بيانات حقيقية تدعم تجاربهن.. الإٍستروجين هرمون يحمي الأعصاب ويساعد في ضبط أنظمة الناقلات العصبية والطاقة وتنظيم سريان الدم والتحاور بين الخلايا العصبية والمناعة في الدماغ. وعندما تنخفض مستوياته خلال انقطاع الطمث، قد يؤدي ذلك إلى تعثر تلك الأنظمة، وهو ما يسهم في حدوث أعراض مثل النسيان وضبابية الدماغ والتغيرات المزاجية".
ومن حسن الحظ أن غالبية الأعراض تقل حدتها أو تختفي تماماً مع مرور الوقت، وأن معظم النساء لا يعانين من مشكلات طويلة الأمد.
تشير العديد من الدراسات إلى أن النساء أكثر عرضة من الرجال للإصابة بعدد من اضطرابات الجهاز العصبي، كالصداع النصفي والتوتر والاكتئاب وأورام المخ والزهايمر والتصلب المتعدد، وهو مرض مناعة ذاتية يهاجم الدماغ.
وتقول موسكوني في كتابها إن معدل شيوع تلك الحالات الدماغية يتغير من كونه شبه متماثل بين الرجال والنساء قبل انقطاع الدورة الشهرية، إلى الزيادة لدى النساء في أعقاب انقطاعها. تؤكد عالمة الأعصاب أن ذلك لا يعني أن انقطاع الطمث يشكل مرضاً أو يتسبب في الإصابة بتلك الأمراض، ولكن التغييرات الهرمونية التي تحدث في تلك المرحلة تثقل كاهل الكثير من أعضاء الجسم، بما فيها الدماغ، ولا سيما عندما يتم تجاهلها، وهو ما يجعلها عرضة للإصابة بتلك الحالات.
العلاج بالهرمونات التعويضية (HRT)
في بداية أربعينيات القرن الماضي، أجازت الولايات المتحدة استخدام أول عقار يحتوي على بديل لهرمون الإٍستروجين، والذي لاقى رواجاً كبيراً بلغ ذروته في السبعينيات، ولا سيما بعد صدور كتاب "أنثى إلى الأبد" الذي روّج لهذا العلاج، حيث كتب مؤلفه أنه بتناول المرأة لذلك العلاج، "لن يذبل الثديان أو الأعضاء التناسلية. ستصبح الحياة (مع المرأة) أكثر سعادة، ولن تصير (المرأة) كئيبة وغير جذابة".
ولكن اكتُشف فيما بعد أن العقار يزيد من خطر الإصابة بسرطان بطانة الرحم. ولاحقاً، توصل باحثون إلى أن تقليل جرعته وإضافة بديل مُصنَّع لهرمون البروجسترون يحمي بطانة الرحم. لكن المخاوف من تناول الهرمونات التعويضية ازدادت مرة أخرى في أعقاب الإعلان عام 2002 عن توقف دراسة على تلك الهرمونات كانت قد بدأت في نهاية التسعينيات في الولايات المتحدة وشملت نحو 160 ألف سيدة في مرحلة ما بعد انقطاع الطمث قبل الموعد المحدد لاختتامها بثلاث سنوات بعد مخاوف من أن ذلك العلاج يزيد من مخاطر الإصابة بسرطان الثدي.
ولا تزال نتائج هذه الدراسة تثير مخاوف كثير من السيدات من اللجوء إلى ذلك العلاج لتخفيف أعراض انقطاع الطمث. ولكن تنبغي الإشارة إلى أن طريقة تصنيع ذلك العلاج أصبحت مختلفة الآن، إذ تستخدم فيه مصادر طبيعية تجعل تركيبة الهرمونات مطابقة لتركيبتها في الجسم البشري، كما أنه أصبح بالإمكان تعاطي بديل الإستروجين من خلال الجلد (في صورة كريم أو جل أو لاصقة)، وهذه الطريقة لا ترفع خطورة حدوث جلطات دموية، كما أنها أكثر أماناً من الأقراص للسيدات اللائي لديهن مشكلات تتعلق بالكبد أوالكولسترول.
وقد أظهرت أحدث الدراسات التي أجريت على العلاج بالهرمونات البديلة أن توقيت تعاطيها في غاية الأهمية لتحقيق الفائدة القصوى منها (المساعدة في تخفيف كثير من أعراض انقطاع الطمث والوقاية من هشاشة العظام مع التقدم في العمر وكذلك من أمراض القلب): فالوقت الأنسب لبدء العلاج هو ما يسبق انقطاع الطمث بقليل أو يعقبه على الفور. كما أنها تكون أكثر فاعلية خلال السنوات العشر التي تلي انقطاع الطمث (من عيوب الدراسة الأمريكية المشار إليها آنفاً أنها أجريت على عدد كبير من السيدات في الستينات أو السبعينات من العمر).
وقد غيرت عدة مؤسسات طبية في الغرب في الآونة الأخيرة تقييمها لذلك العلاج، وذكرت أن خطورة الإصابة بسرطان الثدي المرتبطة به ضئيلة جداً، وأصبحت تراه آمناً للاستخدام – باستثناء إذا كانت المرأة قد سبق لها الإصابة بالمرض.
هل تقي الهرمونات التعويضية من التدهور الإدراكي؟
تقول البروفيسورة موسكوني إن الإستروجين الذي ينتجه المبيض (والدماغ) يلعب دوراً في حماية صحة الدماغ، "لكن الحديث عن العلاج بالهرمونات البديلة له أبعاد كثيرة. فتأثيرات الإستروجين [المصنّع] الذي يحتويه هذا العلاج، على الدماغ، ليست مفهومة لنا مقارنة بالإستروجين الطبيعي".
وتضيف أن "بعض الدراسات تشير إلى أن العلاج بالهرمونات التعويضية، ولا سيما ذلك الذي يحتوي على الإٍستروجين فقط، قد يؤدي إلى تقليل خطورة الإصابة بالخرف إذا ما بدأت المرأة في أخذه في مرحلة مبكرة بعد انقطاع الطمث. بيد أن دراسات أخرى لا تظهر وجود تأثيرات إيجابية في هذا الشأن، والأبحاث لا تزال مستمرة".
وفي الوقت الحالي، يُنصح بالعلاج بالهرمونات التعويضية بغرض الوقاية من الخرف فقط في حالة انقطاع الطمث المبكر (قبل سن الـ45 عاماً).
وتقول موسكوني إن "قرار اللجوء إلى العلاج بالهرمونات التعويضية يجب أن يستند إلى تقييم شامل ينفذه طبيب مختص، ويأخذ في الاعتبار التاريخ الشخصي والعائلي، والصحة العامة، والمخاطر المحتملة. الهرمونات التعويضية ليست إجراءً وقائياً عامّاً ضد الزهايمر، كما أن عوامل أخرى مثل الجينات الوراثية والتاريخ الطبي ونمط الحياة تلعب أيضاً دوراً في خطر الإصابة بذلك المرض".
لا شك أن اتباع نمط حياة صحي يعود بالفائدة علينا في جميع المراحل العمرية ويقي من مخاطر الإصابة بالكثير من الأمراض، ولكنه يزداد أهمية خاصة مع اقتراب مرحلة انقطاع الطمث لأنها قد تزيد من مخاطر إصابة النساء بحالات مرضية مثل هشاشة العظام وأمراض القلب والتدهور الإدراكي.
وينصح الكثير من المختصين حالياً باتباع نظام غذائي شبيه بحمية البحر المتوسط، بتناول أنواع مختلفة من الخضراوات والفاكهة، ومنع أو تقليل السكر المكرر، ومنع أو تقليل الأطعمة فائقة المعالجة، ومنع الدهون المهدرجة، وتناول أطعمة تحتوي على دهون صحية كالمكسرات والأفوكادو، والإكثار من الأطعمة التي تحتوي على ألياف وتلك المفيدة لميكروبات المعدة كاللبن الزبادي والكرنب المحمض (الساوركراوت) وتناول كميات كافية من البروتين للحفاظ على صحة العضلات.
تقول موسكوني إنه ليس هناك نظام غذائي واحد أو نوع بعينه من التمرينات الرياضية للقضاء على أعراض انقطاع الطمث، لكن "اتباع نظام غذائي متوازن غني بمضادات الأكسدة والدهون المفيدة والألياف والبروتينات منخفضة الدهون من الممكن أن يساعد في تقليل الهبّات الساخنة والتقلبات المزاجية".
وتضيف أن "المواظبة على ممارسة التمرينات الرياضية، ولا سيما تلك التي تشمل حمل الأوزان، تساعد على الإبقاء على كثافة العظام، في حين أن تمرينات القلب والأوعية الدموية مفيدة لصحة الدماغ والقلب".
وتنصح موسكوني كذلك بممارسة تقنيات السيطرة على القلق والتوتر، مثل رياضة اليوغا والتأمل الواعي لتحسين الصحة العقلية بشكل عام، وكذلك الحرص على نيل قسط كافٍ من النوم.
نظرة إيجابية
ربما كان من الصعب على المرأة أن تنظر بتفاؤل لمرحلة انقطاع الطمث، ولكن هناك بعض الأشياء الإيجابية المصاحبة لها. على سبيل المثال، تتوقف الآلام التي تسبق الدورة الشهرية أو تصاحبها. كما أن نساء كثيرات يتحدثن عن شعورهن بالمزيد من الثقة والسعادة والرضا في فترة ما بعد انقطاع الطمث. وتشير موسكوني في كتابها إلى أن الأبحاث أظهرت أن النساء اللاتي ينظرن بإيجابية إلى هذه المرحلة عادة ما تخف لديهن حدة أعراضها، والعكس صحيح.
المجتمع أيضا ينبغي أن يلعب دوراً إيجابياً، من خلال احترام وتقدير النساء اللاتي يخضن هذه المرحلة. فتوقف القدرة على الإنجاب لا ينبغي أن يكون معادلاً لتوقف قدرة المرأة على العطاء، سواء في مجال العمل أو محيط الأسرة أو في مجتمعها ككل. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات