يوضّح لنا القرآن الكريم أنّ الهدف النهائي من بعثة الأنبياء هو هداية الناس ودفعهم نحو التكامل علمًا وعملًا؛ لتحقيق أقصى درجات القرب من الله تعالى، وهذا الأمر لا يتحقّق إلّا عن طريق التعليم والتربية التي يقوم بهما الأنبياء، فالأنبياء معلّمون، ومربّون، وكلّ مَن يتصدّى لعملية التعليم والتربية فهو يشبه الأنبياء في مَهمّتهم، ومن ثمّ عليه أن يعي أهمّية هذه المسؤولية ويسعى إلى حملها بجدارة وإخلاص.
ولأهمّية التعليم، نلاحظ أنّ نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) عندما أتمّ بناء البيت الحرام وهو في أقصى درجات التعب، توجّه بالدعاء إلى ربّه يسأله أن يرسل في ذرّيته مَن يعلّمهم ويربّيهم، مثلما ورد في قوله تعالى: رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ (البقرة:129)، والمراد بالتزكية هو التربية التي هي ثمرة التعليم وقِطافه المبارك، ولا تتمّ قطعًا إلّا به؛ ولأنّ التعليم يرتكز على ركنين أساسيين هما الأستاذ والتلميذ، فإنّ لكليهما ضوابط وآدابًا يجب الالتزام بها لينجح التعليم ويحقّق أهدافه المرجوّة، ولعلّ الخلل الذي نلمسه في مؤسّساتنا العلمية ناتج عن الجهل بهذه الآداب، أو ضياعها، أو عدم الحرص على تطبيقها، ولعلّ أجمل مثال يمكن أن نطّلع عليه في عملية التعليم، والعلاقة بين الأستاذ وتلميذه ما حكاه القرآن الكريم في قصّة نبيّ الله موسى (عليه السلام) والخضر، الواردة في سورة الكهف في الآيات (٦٠ـ٨٢)؛ فقد كان النبيّ موسى (عليه السلام) وهو كليم الله، ونبيّ من أنبياء أولي العزم، وصاحب التوراة مأمورًا ـ ولحكمة معيّنة - بدخول دورة تعليمية على يد أستاذ خاصّ، وكان عليه أن يبحث عن هذا الأستاذ بنفسه، ولذا كان مستعدًّا أن يستمرّ بالبحث بعزم راسخ، وهمّة عالية مهما كان الجهد والتعب الذي سيبذله، حتى لو استغرق البحث ردحًا من الزمن!
وعندما التقى موسى (عليه السلام) بأستاذه، أظهر أمامه من التواضع في سلوكه ما يثير العجب؛ حيث طلب مرافقته بالتماس يشبه التوسّل، وعدّ نفسه تابعًا له في هذه الرحلة التعليمية، وطلب منه أن يعلّمه بعضًا ممّا يحمله من علم لدنّي، ووصف ذلك العلم بأنّه وسيلة إلى الرشد: هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰۤ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدࣰا (الكهف:66)، ووعده بالصبر وعدم العصيان، وتعهّد له بالالتزام بشروطه المتمثّلة بعدم السؤال أو الاعتراض على شيء من تصرّفاته في أثناء الرحلة، وربط تعهّده بمشيئة الله تعالى لا بجهده الشخصي، مثلما قال تعالى: قَالَ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ صَابِرࣰا وَلَاۤ أَعۡصِی لَكَ أَمۡرࣰا (الكهف:69)، وكان العالم الربّاني بدوره على درجة عالية من الحلم وسعة الصدر، والقدرة على استيعاب ردود فعل تلميذه الغاضبة بكلّ هدوء، وأن يتحمّل اعتراضاته المتكرّرة؛ لأنّ موسى (عليه السلام) كان ينظر إلى ظاهر الأعمال التي قام بها أستاذه وما بها من شرّ ظاهري، ويجهل ما تنطوي عليه من حكمة ومصلحة كبيرة؛ لذا كانت تلك التصرّفات تستفزّه وتثير غضبه؛ ولأنّه كان نبيًّا كان يرى أنّ من واجبه أن لا يسكت على عمل يرى فيه ظلمًا وتعدّيًا على الآخرين.
وبعد أن انتهت الدورة وحان موعد الفراق، بدأ الأستاذ يشرح بكلّ هدوء ورويّة أسرار الأفعال التي قام بها، والتي أثارت اعتراضات تلميذه بشدّة، تلك الأسرار التي تُعدّ درسًا مهمًّا لموسى (عليه السلام)، ومفتاحًا للعديد من الألغاز في المستقبل، فعلى الإنسان أن لا يتعجّل بالحكم على الحوادث والأمور؛ فرُبّ عمل يبدو شرًّا في ظاهره ولكنّه ينطوي على خير كبير وحكمة خافية.
لا نعلم كم بقي موسى (عليه السلام) برفقة ذلك العالم الربّاني، لكنّه تأثّر به بعمق؛ وكانت تلك الأيام عزيزة عليه؛ لذا كان فراقه من أشدّ المواقف إيلامًا لقلبه.
قصّة نبيّ الله موسى (عليه السلام) مع أستاذه أنموذج للعلاقة الناجحة والمتّزنة بين التلميذ وأستاذه، وعلى المعنيين بالشأن التعليمي أخذ الدروس والعِبر العميقة منها لنجاح العملية التعليمية، والارتقاء بها إلى أعلى المستويات.
اضافةتعليق
التعليقات