لم يكن قيام الزهراء (عليها السلام) برعاية أبيها إلا الأول وأداء حقوق بعلها والنهوض بشؤون منزلها والخدمة فيه شاغلاً لها عن رعاية أولادها وتربيتهم التربية الإيمانية، فقد جعلت من البيت مدرسة إيمانية نموذجية.
لقد كانت تجلس في فناء دارها على ذلك الرمل الأحمر، وأولادها محدقون بها وهي تعلمهم القرآن وتلقنهم العلم والفصاحة والشجاعة والزهد والورع ومعاني الأخلاق والقيم، وتعمق في نفوسهم كل معاني الحب الله والجهاد في سبيله، وكانت تعطيهم كل الطهر من طهرها، وكل الأمومة من أمومتها، وكل النقاء من نقائها لأنها كانت تمثل غاية الطهر والنقاء.
إن تربية الأطفال من الوظائف الحساسة والمهام الثقيلة التي ألقيت على عاتق الزهراء حيث رزقت عليها خمسة أطفال هم الحسن، والحسين وزينب، وأم كلثوم، ومحسن الذي أسقط وهو جنين في بطن أمه، وبقي لها ولدان وبنتان وقد قدّر الله سبحانه أن يكون نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذريته من فاطمة قال رسول الله: (إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه خاصة وجعل ذريتي من صلبي وصلب علي بن أبي طالب).
لهذا تحملت فاطمة مسؤولية التربية وقد تبدو لفظة (تربية الأطفال) مختصرة صغيرة ليس فيها كثير عناء إلا أن معناها عميق واسع وحساس جداً، فالتربية ليست مجرد أن يوفر الأب الطعام والشراب واللباس ويسعى للحصول على لقمة العيش، بينما تهيأ الأم الطعام وتغسل الملابس، وتراعي نظافة الطفل وما شاكل، وأن لا مسؤولية أخرى سوى هذه، لا أبداً، فالإسلام لا يكتفي بهذا الحد، وإنما يجعل مسؤولية الأبوين أكبر بكثير في تربية الأبناء، حيث أن شخصية الطفل المعصوم -في حاضره ومستقبله مرهونة بتربية أبويه ومراقبتهما ومتابعتهما له- وكل صغيرة وكبيرة من حركاتهم وسكناتهم وأفعالهم وسلوكهم -كأبوين- تؤثر في روح الطفل الشفافة فهو يقلد أبويه، ويعكس سلوكهما تماماً كالمرآة.
من هنا أصبحت مسؤولية الأبوين مراقبة أطفالهم بدقة، والإعداد لمستقبلهم بجدية، وحماية فطرتهم السليمة من التلوث؛ لأن الله خلقهم على فطرة الإيمان.
والزهراء ربيبة الوحي التي كبرت في أحضان النبوة، تعرف مناهج التربية الإسلامية، ولا تغفل عنها وعن تأثيرها في الطفل، ابتداءً من تغذيته من لبن أمه وقبلتها التي تطبعها على وجهه إلى سلوكها وأفعالها وأقوالها.
والزهراء (عليها السلام) تعلم أن عليها تربية أئمة تقدمهم للمجتمع نماذج حية للإسلام وصوراً متحركة للقرآن الكريم وحقائقه ومعارفه، ومن الواضح أن هذا العمل ليس سهلاً يسيراً.
الزهراء (عليها السلام) تعلم أن عليها أن تربي مثل الحسين (عليه السلام) الذي يضحي بنفسه وبكل أهله وأصحابه وأعزائه في سبيل الله، ومن أجل الدفاع عن الدين، ومقارعة الظلم والظالمين، ليروي بدمه شجرة الإسلام.
وتربي نساء مثل زينب وأم كلثوم وتعلمهن في مدرسة البيت دروس التضحية والفداء والصمود أمام الظالمين حتى لا يرعن ولا يخضعن للظالم وقوته، ويقلن الحق، وتعلمهن كيف يعرضن مظلومية الحسين على الأسماع. فيبكي العدو والمحب في ديوان بني أمية، تعلمهن كيف يقفن تلك المواقف المشرفة، ويخطبن على الملأ بشجاعة ويفضحن مخططات الأمويين وجرائمهم ويحلن دون تحقيق الظالم لأهدافه.
وتربي مثل الحسن (عليه السلام) ليعض على قلبه في المواقف الحرجة، ويختار السكوت ويصالح معاوية، ويفهم العالم أن الإسلام يرجح الصلح على الحرب، فيسقط ما في يد معاوية، ويغسل ريحه ويميت مؤامراته ويكشف تضليله للناس، وتنتهي اللعبة التي أراد معاوية أن تمرعلى المسلمين ومن هذه النماذج الرسالية - الخارقة للعادة - تتجلى عظمة الزهراء (عليها السلام) وقوتها الروحية الفريدة.
لم تكن الزهراء (عليها السلام) تلك النساء القاصرات الجاهلات والعياذ بالله لتتصور البيت بمحيطه الصغير الضيق، وإنما كانت تحسب محيط البيت محيطاً واسعاً شاسعاً مهماً باعتباره مصنعاً لإنتاج الإنسان الرسالي، وجامعة لتعليم دروس الحياة ومعسكراً لتلقي تمارين التضحية والفداء التي سيطبقها غداً في المجتمع الواسع خارج البيت.
اضافةتعليق
التعليقات