ركض علي مسرعاً عبر الأزقّة الضيّقة المتشابكة قاصداً بيت علوان أبو دكة، كانت الطّرق متخمة برائحة خشب الصّاج الرّطب الّتي تبعثها الشّناشيل المتحلّلة، تتخلّلها الرّوائح الزّکیّة للأطعمة الشّهيّة الّتي بدأت النّسوة بإعدادها منذ الصّباح الباكر.
دقّ الباب الخشبيّ بطَرَقات متوالية، حتّى فُتح له، عبَر الدّهليز الأظلم المؤدّي إلى باحة الدّار، كان علوان جالساً ينفث الدّخان الغزير من أركيلته الدمشقيّة المزخرفة غير مبال بالّلهيب الهاطل من أتون الشّمس.
وقف لاهثاً تتصبّب حبّات العرَق متراكضة على جبينه ثمّ انفجر:
- حسناً سوف أبيع الورود قبل انتهاء النّهار!
شزره علوان، ونفث نفثة أخرى، فتصاعد عمود الدّخان متلاشياَ في الفضاء وكأنّه يخرج من مدخنة ريفيّة نشطة.
- إنّها صفقة يا فتى هل تفهم؟! لو أخذتها لابدّ لك من بيعها؛ سوف تذبل الورود وتلفظ آخر أنفاسها بحلول المساء!
انهمر صوتُه بذلك البرود الّذي يتسلّح به رسول التّوقّعات التّعيسة!
تنهّد عميقاً وقال:
- لا بأس سأحاول!
- إذهب وخذها‘ فقد أصبَحت تعرف مكانها منذ جئتني آخر مرّة حفّتك الحاجة.
توجّه ناحية القبو ونزل خمس درجات‘ ثمّ استخرج بعد مشقّة كيساً ضخماً مضى به نحو تقاطع الشّارع.
وقف تحت شجرة كاربس مدّت ظلالها الوارفة بكرم على الرصيف، بعد نزال مع أشعة شمس تمّوز؛ ثمّ فرد شدّة من زهور القرنفل الأحمر على عربة بسيطة بمقبضين وثلاث عجلات كبيرة.
أضحى الشّارع عاجّاً بالمارّة العابثين في أزمنة التّيه السّحيقة، صاخباً بأبواق السّيّارات الّتي تتبعها صفّارة شرطيّ المرور بين الحين والآخر.
نظر يمنة ويسرة بتوجّس دفين، حتّى جاء جابر بعد لحيظات كما توقّع، بوجهه المستدير النّحس الّذي تركت فيه (عركات) الشارع علامة في كلّ تقاطيع وجهه المكفهر.
زعق بخبث وتنمّر:
_ هي! أنت يا فخذ الدّجاج، ما الّذي دعاك لتحتلّ مكاني؟!
وبحركة نشيطة بعثر الزهور المصفوفة بأناقة وراح يدعسها بقدميه ثمّ سحبه من ياقته، فتدحرج زرّه العلويّ وغاب في مكان ما تحت قدميه!
زفر بعدها زفرة طافت على أثرها رائحة فمه الكريهة طاغية على الروائح المنبعثة من عوادم السيارات:
هيّا اذهب من هنا قبل أن تلتحق بورودك المحتَضرة!
كان استهلالاً سيّئاً لبدء يوم عمل شاق، تصاعد فيه إعصار عارم من الحقد والحنق.
اللعنة عليه!
لو كنت كبيراً وقويّاً مثله للكمته ضربة تُضيف على وجهه تجويفاً آخر، خاطب نفسه وهو يدير عربته؛ فتحرّكت عجلاتُها إلى نهاية الرّصيف في ركن قصيّ شحيح بالمارّة.
كانت فكرة بيع كلّ الزّهور خلال ساعات تجرفه وتخلُق عنده وجيباً ملحوظاً.
في هذه الأثناء رنّ هاتفُه فضغط زرّ الإجابة المعطّل لمرّات عدّة حتى استقرّ في مكانه.
كان لهاث أمّه غريباً يشبه النشيج المهزوم:
_ كيف حالُك يا ولدي؟ أين أنت؟
_ مرحباً أمي!
أنا عند (سامي) سوف نُنهي آخر صفحات الواجب. كيف أصبحت حنان؟ هل انخفضت حرارتها؟
- أختك كما هي! اتّصلت بأم سامي لأستلف منها بعض المال كان جهازها مقفلاً سوف أحاول مرة أخرى! أنا بانتظارك لا تتأخر في المساء!
حفرت الاحتمالات في رأسه هوّة سحيقة تصدح فيها توقّعاتٌ لا حصر لها، ما بها يا إلهي؟! لمذا لا تغادرها الحمّى؟
لم تأكل منذ ثلاثة أيّام؛ هل تشتهي صنفاً معيّناً؟!
هل ملّت شوربة العدس الشّهيّة الّتي تعدّها أمّه كلّ يوم؟! كانت تأكلها بشراهة في الشّتاء! ما الّذي غيّرها؟!
قد يكون السّبب صديقتها الجّديدة؟ منذ التقت بها تغيّرت وبدأت تذوي كهلال آخر الشهر، فهي لا تطيق مقاومة ألوان الحقائب والأحذية الورديّة المغرية, وبكلات الشّعر ذات الدّببة المزيّنة المنتقاة من المحلات الرّاقية، والّتي لا تقارن بمطّاطات البسطات على الأرصفة.
مضى النّهار إلّا أقلّه، ولم يبق من ضيائه في صفحة الوجود إلّا بقايا أسطر يوشك أن تمتدّ إليه أيادي الأصيل فتأتي عليه.
رنا بسطته الواقفة في ركن أقفر كرفيق درب مخلص، جلس منهكاً تلوح من حوله خيم المتظاهرين مهجورة، خاوية، تتكدّس فيها النّفايات، وتموء فيها القطط وقد تحوّلت لمنظر بشع آخر من مناظر البؤس والشقاء في المدينة.
هل تراه أخطأ عندما خرج مطالباً بحقوقه، رافضاً سوء الخدمات، ولكنّه لسبب وآخر طالب بتغيير النّظام، فتغيّر الأخيرُ ولم يتغيّر من وضعه شيء!!
بغيّة طوامير السّياسة وخبيث مكر السّاسة!
نكزته فكرة بيع الزّهور مرّة أخرى كتنمّل يصيب الأطراف فيشلّها، ماذا سيجيب علوان ومن أين يوفّر ثمن الخسارة؟
أخذ يذرع الرّصيف جيئة وذهاباً، دون هوادة، بينما يتّسع في داخله شرخ قارب الانفراج.
فجأة لمح سيّارة (سورنتو) بيضاء توقّفت على بعد منه، أومأ له السّائق، فانتفض من مكانه مهرولاً نحوه وهو يقول: تفضّل يا سيّدي كم وردة تريد؟ الحزمة بألف.
لامس وجنتيه نسيم المكيّف المنبعث من الداخل بلطف لا يقاوم؛ ثمّ بدا له وجه ثلاثينيّ لشابّ حنطيّ اللّون، عريض المنكبين، عليه سيماء العارفين، تدلّت خصلة من شعره، على طرف جبهته، فراح يعالجُها مرّات عدّة دون جدوى.
قال بوقار:
_ أريد كميّة كبيرة منها.
_ أجل أجل! لابأس لديّ الكثير كم تريد؟
_ أريدها كلّها!!
انهالت عليه الكلمات كزخّة ربيعيّة في يوم قائظ.
- ماذا؟! ماذا تقول؟! إنّها ستّمئة زهرة، أتلف منها جابر المشاكس عشرين وحدة.
- لا عليك! هاتها وامض معي!
لم يخطر له الرّفض حتّى لو كانت المرّة الأولى للذّهاب مع الغرباء، كان خيار الرّكوب تحت عليل المكيّف حاسماً لا يقبل الرّد.
تجاوزت السيّارة الشّوارع والأحياء الّتي اعتاد عليها.
كانت حركتها غريبة وكأنّها تسبح في الفضاء، تقضمها المسافات بنهم، حتّى وصلت إلى حيّ جميل تزيّنه الأشجار الباسقة، خضراء نضرة لم تتلظّ من العطش، والشّارع نظيف ينبعث منه عطر التّراب المبتلّ برذاذ الماء؛ ليُنعش الرّوح كإكسير سحريّ، كما تخلو واجهات المحلّات فيه من الأغبرة الجّاثية على كلّ شئ.
توقّفت السيّارة أمام باب مسجد؛ ولجناه، فاتّسعت أمامنا ساحة فسيحة تتوسّطها قبّة بمآذنها العالية، دخلنا البهو فانصرف الرّجل متّخذاً جانباً قريباً من منصّة أعدّت من أجل احتفال.
كانت مزدانة بالبخور والشّمعدانات، ومبهرجة بمختلف الأقمشة اللّامعة وباقات الورد الملوّنة الجميلة، رُصّت في جانب منها مجموعة من الكتب أحصيتُها أحد عشر مجلّداً كُتب على كلّ واحد منها مقداراّ من حرف، بدت لي مجتمعة كلمة (الغدير).
شدّني فضول جامح لأتناول أحدها.
رغم أعوامي الاثني عشر المتواضعة، كانت تشدّني تراصّ الكلمات وانسجامها في إيقاع متجانس لتخلق نصّاً، ولكن أوقفني الخجل.
لمحني الأستاذ (صالح) السّائق الذي جئت معه فقال:
إنّها هديّة حفل اليوم تُعطى بالقرعة، ألّفها العلّامة (الأميني) وقد ناقش فيها قضيّة الغدير وما يرتبط بها من أشعار وأحاديث وروايات، تثبت ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)‘ هل تعلم معنى الغدير؟!
ارتسمت على وجنته ابتسامة مغرضة:
- معناه النّهر الصّغير، ثمّ استأنف: هل يمكن أن يمرّ عطشان على غدير ماء عذب، ريّان، فيتجاوزه دون أن يستقي منه؟!
إنه لعجب عجاب!!
ثمّ مضى نحو الباب يعطي كلّ قادم وردة.
كانت الوجوه المبتهجة تُسري إلى قلبي هدوءًا مفتعلاً، ناداني بعد قليل: ما بك يا علي؟! هات حزمة وساعدني في توزيعها.
بدا المشهد كحُلم عابر، تنجبر فيه كلّ انكسارات الحياة، كان الجميع فرح مستبشر وكأنه أجّل أحزانه لفينة أخرى، لم أكن أعلم أنّ ورودي الحزنى سوف تَخلُق ابتسامة على كلّ الوجوه المكتظّة في قاعة المسجد.
اقترب منّي أحد الصّبية من خدمة المسجد غامزاً ما اسمك؟ لم أرك هنا من قبل؟!
- علي! جئت مع الأستاذ، وأشرت برأسي ناحيته.
فابتسم ممازحاً وقال:
- بخ بخ لك يا علي!!
ما من أحد يرافق الأستاذ (صالح) إلا ويصيبه شيئ من فضله كالقمر لا ينفكّ يضئ كبد السّماء حتّى لو غيّبه الخسوف.
أخذت أضواء المساء تغمز غمزات الإغراء؛ لتفضح كلّ ركن غيّبه الظّلام، انتهى الاحتفال تقريباً فجاء الأستاذ وقال:
هيّا بنا نرجع للمنزل، وبنفس الطّريقة ركبنا السيّارة عائدين من حيث أتينا.
وصلنا المقصد، ودّعته وهممت بالنزول، فهمهم ونظر في عينيّ نظرة بدت غريبة، ارتَعَشت على أثرها كلُّ خليّة في بدني:
استق من الغدير!
استق منه يا علي!
دغدغت كلماته حواسّي المنسيّة، ثمّ غاب بسيّارته موغلاً في البُعد.
دخلت الدّار، كانت أختي تتوهّج من الحمّى، بينما أمّي جالسة حيرى تضع الكمّادات على بدنها الهامد.
ناولتها رزمة النّقود؛ فاستبشرت والتمعت عيناها فرحاً، قفزت من مكانها تضمّني وتغرقني تقبيلاً متواصلاً وهي تقول:
حقّاً إنّ أمّ سامي امرأة أصيلة، تململَت في بادئ الأمر عندما فاتحتها بالموضوع لكنّي عرفت أنّها لا تردّ طلبي!!
استيقظت في صباح اليوم التّالي وتوجّهت للمسجد الّذي قصدناه اللّيلة المنصرمة استفسرت عن الطّالب الّذي ربح القرعة.
أخذت العنوان وتوجّهت لمنزله، كان بسيطاً متواضعاً مزيّناً بنبات الدّفلى في عتبته، طرقت الباب ففتحه الرّجل‘ قلت له بعد التّحية والسّلام هل أستطيع يا أخي استعارة كتاب منك بين الفينة والأخرى؟!
اضافةتعليق
التعليقات