قد يكون المرء أحيانا بأمس الحاجة للمواساة إن مرَّ بشدة أو ضيق، لكن عندما يتذكر ما عاشته وعاصرته السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) سيقف خجلاً أمام تذمره ومأساته، فيذكر لنا التاريخ أن الإمام علي (عليه السلام) قد بكى عندما بُشِّر بولادتها كذلك حال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلمهم الغيبي بما سيجري على هذه البنت من محنٍ ومصائب.
وبالفعل إنها شهِدت فاجعة جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتلتها فاجعة أمّها فاطمة سيّدة النساء (عليها السّلام)، ثم أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ثم أخيها الحسن المجتبى (عليه السّلام) سِبطِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ فُجِعت بمصيبةٍ أعظمَ وأدهى، هي مصيبة قتل أخيها الحسين (عليه السّلام) سيّد شباب أهل الجنّة وأخيها أبا الفضل العباس وولديها وأبناء اخوتها في أرض كربلاء ثم السبي ورحلة الشام المريرة مع الأرامل والأيتام.
لم تكتفِ السيدة زينب (عليها السلام) بالوقوف مكتفة أمام الظلم والطغيان بل كانت صوت الثورة الحر فلم تكتمل ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ضد الظلم إلا بصرخة زينب (عليها السلام) وصوتها ذا الصدى بعيد المدى، فالحسين قُتِل وصوت زينب إلى الآن يصدح بأُذن كل طاغي ومعتدي عندما كانوا كل اخوتها قتلى ورؤوسهم أمامها بمجلس يزيد أراد أن يقلل من شأنها مستهزئاً وظناً منه أنه انتصر وأنه ذا قوة وعدد وسلطان، وأهل بيت النبوة لم يعد لهم ناصراً ولا معين، مكبلين بالسلاسل والأغلال، والدم يقطر من شدة القبض والضرب.
إن العقيلة زينب (عليها السّلام) خَطَبت في الكوفة خُطبتَها الغرّاء قامت هنا السيدة الجليلة ألقت بخطبة تهتز لها الجبال فتركت أهل الكوفة يَموجُ بعضُهم في بعض، قد رَدُّوا أيديهم في أفواههم، حيارى يبكون وقد تمثّل لهم هولُ الجناية التي اقترفوها، قال الإمام زين العابدين (عليه السّلام) لعمّته زينب (عليها السّلام): أنتِ بحمد الله عالِمةٌ غيرُ مُعلَّمة، فَهِمةٌ غيرُ مُفهَّمة. وعلى أثر هذه الخطبة الشريفة ووعودها ليزيد بأن لن يمت وحيهم مهما فعل، تم فكّ أسر أهل بيت النبوة (عليهم السلام).
كذلك تبين لنا السيدة زينب (عليها السلام) معايير العفة والحجاب والتمسك بشرائع الإسلام الحنيف، ليس بالواجب فقط حتى بالمستحبات أيضاً وتضرب لنا أسمى حبائل الوصال مع الرب الجليل بالعسر قبل اليسر، فيذكر أن بعد قتل اخوتها وأولادها وتسليب العائلة أي عندما حلَّ الظلام بوسط الخوف والرعب والهلع قامت السيدة الجليلة زينب (سلام الله عليها) لتصلي صلاة الليل وجثث أحبائها حولها، ناجت ربها وشكت إليه الجور والظلم والطغيان وهي متيقنة أن أبواب السماء إليهم مشرعة كذلك وبحجابها تضرب الأمثال فلم يُرَ لها خيالاً حتى وكانت عليها السلام تلاوة القرآن لم تتركها.
وكذلك كانت السيدة مفسّرة للقرآن الكريم وكانت تعمل مجالس تحضرها النساء، وليس هذا بمُستكثَر عليها، فقد نزل القرآن في بيتهم، وأهلُ البيت أدرى بالذي فيه، وخليقٌ بامرأةٍ عاشت في ظِلال أصحاب الكساء وتأدّبت بآدابهم وتعلّمت من علومهم أن تحظى بهذه المنزلة السامية والمرتبة الرفيعة، وذكر في كتاب "الخصائص الزينبيّة" أنّ السيّدة زينب (عليها السّلام) كان لها مجالس في بيتها في الكوفة أيّام خلافة أبيها أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وكانت تفسّر القرآن للنساء وفي بعض الأيّام كانت تفسّر "كهيعص" إذ دخل عليها أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال لها: يا قرّةَ عيني، سمعتكِ تفسّرين "كهيعص" للنساء، فقالت: نعم. فقال عليه السّلام: هذا رمز لمصيبة تُصيبكم عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثمّ شرح لها تلك المصائب، فبكت بكاءً عالياً.
والسيّدة زينب (عليها السّلام) المحدِّثة العالِمة وكلام الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يدلّ بما لا غبار عليه على المنزلة العلميّة الرفيعة التي ارتقت إليها عقيلة الهاشميّين (عليها السّلام)، فهي عالمة بالعلم اللدُنّيّ المُفاض من قِبل ربّ العزّة تعالى وليس بالعلم المتعارَف الذي يُكتسب بالدرس والبحث فهي زينب، عقيلة بني هاشم، وقد حازت من الصفات الحميدة ما لم يَحُزْها بعد أمّها أحد، حتّى حقّ أن يُقال: هي الصدّيقة الصغرى، هي في الحجاب والعفاف فريدة، لم يَرَ شخصَها أحدٌ من الرجال في زمان أبيها وأخوَيها إلى يوم الطفّ، وهي في الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى وحيدة، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين (عليه السّلام) كما لا يَخفى على مَن أنعم النظر في خُطبتها.
أما أجر البكاء على مصائب زينب (عليها السّلام) روي أنّ عندما بكى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على زينب (عليها السلام) قد قال: من بكى على مصاب هذه البنت، كان كمن بكى على أخوَيها الحسن والحسين (عليهما السّلام)، ومن الجليّ أنّ البكاء على مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) والتلهّف والتوجّع لِما أصابهم، يتضمّن معنى مواساتهم والوفاء لهم وأداء بعض حقوقهم التي افترضها الله تعالى في آية المودّة وغيرها، فقال عزّ مِن قائل: (قُل لا أسألُكُم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القُربى)، وقد روى علماء المسلمين أنّه لمّا نزلت هذه الآية الكريمة قالوا: يا رسول الله، مَن قَرابتُك الذين وَجَبَت علينا مودّتُهم؟ قال صلّى الله عليه وآله: عليّ وفاطمة وابناهما، كما يتضمّن البكاء على مصائب العترة الطاهرة انتماءً من المؤمن الباكي إلى صفّ أهل البيت عليهم السّلام، وإعلاناً منه لنفوره من أعداء أهل البيت عليهم السّلام وقتلتهم، وإدانةً منه لتلك الجرائم البشعة التي ارتُكبت في حقّ العترة الطاهرة، وإعلاناً من الباكي عن استعداده للسير تحت لوائهم والانضواء في رَكبهم والالتزام بنهجهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فسلام الله عليكِ يا عقيلةَ الهاشميّين يوم وُلدتِ، ويوم التَحقتِ بالرفيقِ الأعلى، ويوم تُبعثينَ حيّةً فيوفّيكِ اللهُ تبارك وتعالى جزاءك بالكأسِ الأوفى مع جدّكِ المصطفى، وأبيكِ المرتضى، وأمّكِ الزهراء، وأخيك الحسن المجتبى، وأخيكِ الشهيد بكربلاء.
اضافةتعليق
التعليقات