عندما تتواتر المصائب وتتلاحق المآسي على الأمة، فإن جوهرها الحقيقي سيظهر لنفسها وللناس جميعا. وإن الأمة التي تصطدم بواقع الضعف والانكسار لا يسعها إلا استخراج كنوزها الذاتية، واستخلاص قواها المكنونة، المتمثلة في الاستقامة.
ولا يخفى أن الاستقامة هي جوهر كل أمة والأمة التي لا تتمتع بالاستقامة أمة منهزمة في جوهرها وكيانها، عاجزة في قدراتها...
وبناء على ذلك، فإن الاستقامة هي مقياس جوهر الأمة، وميزان ثباتها وتحديها.. ولأننا اليوم نعيش تحد حضاري على جبهتين؛ جبهة الخارج، حيث نواجه مطامع المستكبرين وخططهم في استغلالنا ونهب ثرواتنا.. وبالتالي السيطرة علينا. وجبهة الداخل، حيث نواجه التخلف والانحطاط، والظلم والاستبداد. فلا مناص لنا من الاستقامة. ولكن ما هو السبيل الذي يجعلنا نحظى بالاستقامة؟ إن الذي يعيننا ويعين أبناء أمتنا الإسلامية على الاستقامة، هو أن نتلقى التربية الإسلامية منذ الطفولة، وفي هذا المجال تلعب المدارس دوراً أساسيا في ترسيخ الاستقامة في نفوس شبابنا. ومن المعلوم أن الغالبية العظمى من صفات الانسان تبدأ بالظهور منذ الطفولة، ومنذ السنين اثرت في حياتنا، وصاغت شخصيتنا، وكوّنت أفكارنا ولكن هذه العوامل ما تزال تعيش معنا متمثلة في نتائجها. وعلينا ان لا ننسى في هذا المجال ان نستوحي تعاليمنا وتوجيهاتنا وارشاداتنا التربوية من القرآن الكريم، ولكننا نلاحظ – للأسف الشديد - ان القرآن مهجور في بلداننا الإسلامية، بل ان البعض يدعون ان القرآن كتاب انزل قبل اربعة عشر قرناً، وانه موجّه الى اولئك الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر. فنراهم يهجرون القرآن، ويؤطّرونه - في أفضل الاحوال - بأطر تقليدية محدودة ينبغي ان لا يخرج منها، فيقول ان الآيات القرآنية قد نزلت بشأن اناس عاشوا في عصر ما ثم انتهوا، وانه لا يعيننا من قريب أو بعيد.
ان مظاهر الانحراف والبعد عن التعاليم القرآنية قد انتشرت - للأسف الشديد - في جميع ارجاء العالم الإسلامي، وعلى سبيل المثال فأننا نلاحظ ان المصارف والبنوك تتعامل من الصباح الى المساء بالربا، ومظاهر الفساد منتشرة في كل مكان والسبب في ذلك اننا قد اعتقلنا القرآن - إن صح التعبير، وعلينا ان نطلق سراحه لكي يطلق سراح الأمة، ولكي تطلق آياته طاقات الأمة وتفجرها باتجاه البناء. والقرآن يقول بشان الاستقامة التي سبقت الاشارة اليها، والتي اعتبرناها العامل الرئيسي في مقاومة التحديات المضارية: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . (فصلت/ ۳۰)، ثم يقول بعد ذلك: { وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت / ٣٤) و هاتان الآيتان تبينان لنا ان الاستقامة لا تتحصل إلا من خلال التربية الصالحة، وانا هنا اوجّه حديثي الى الآباء والامهات والى العاملين في المؤسسات التربوية والتعليمية، وإلى الشباب والشابات المقبلين على الزواج و تكوين الأسرة أقول : يامن تتولون مسؤولية تربية الجيل القادم انتم مسؤولون عن تنشئة جيل التصدي والتحدّي، جيل يكون قادراً على اداء مسؤولياته بالكامل. وعلى الآباء والأمهات تقع المسؤولية الكبرى في هذا المجال، وذلك من خلال اتباع الخطوات والاساليب التالية:
١- تربية الأولاد على الحرية التي هي بنت الفطرة والارادة. علماً ان المسؤولية لا تكون إلا بعد ان تتحقق للإنسان الحرية، والمسؤولية هي أعظم وأفضل صفة للإنسان، فعلينا ان لا نقهر الطفل منذ نعومة اظفاره، وان لا نهزم نفسيته. ان الأب إذا هزم نفسيّة الطفل في بيته فانه سيصبح طاغوتاً في حدود هذا البيت، وكذلك الحال بالنسبة الى الأم والطفل والطفلة عندما يشبّان فانهما سيتحولان ايضا الى طاغوتين ثم تستشري حالة الطغيان في المجتمع كله.
وبالإضافة الى ذلك فان الطفل الذي تعوّد على الخضوع والسكوت، واعتاد الكبت والهزيمة النفسية في البيت، فانه سوف لا يستطيع غداً ان يتحدى المظاهر الفاسدة. لنحاول ان نمنح اولادنا الشخصية، ولنزوّدهم بالاعتداد بالنفس والثقة بالذات، ولنوح لهم بأنهم مسؤولون عن تصرفاتهم. فتربية الطفل ليست كتربية الدواجن. فالله سبحانه وتعالى خلق الطير - مثلاً - بحيث يعيش باستقلالية بمجرد ان يخرج من البيضة، ولكنّه خلق الطفل بحيث يحتاج الى ابويه لسنين طويلة. وحكمة ذلك ان يعمل الابوان من اجل تربيته، وصياغة شخصيته، ولكي يتحملا مسؤوليتها في تنشئته ورعايته، بحيث لا يصنعان منه انساناً جباناً، ضعيف الإرادة، مهزوماً من الناحية النفسية، خانعاً لكل قوة، خاضعاً لكل سيطرة. وبناء على ذلك فان على الآباء والأمهات ان لا يطردوا -مثلاً- اولادهم من البيت لمجرد انه قد تحداهم، او لم يمتثل لأوامرهم، في المدرسة التي اختارها او نوع الملابس التي يريد ان يرتديها، وما الى ذلك فنحن لسنا آلهة بالنسبة إليهم، وهم ليسوا عبيدا لنا، وصلاحياتنا محدودة ضمن اطر معينة بالنسبة إليهم.
٢-فلنعط اذن - كرامة لأطفالنا، ولننمي فيهم روح الاستقامة، ولنعودهم على ان يحيوا حياة الابطال دون ان نفرط في تدليلهم، ونبالغ في رعايتهم والعناية بهم الى درجة بحيث نجعلهم مرتبطين بنا، معتمدين علينا. وفي هذا المجال يقول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): "شر الآباء من دعاه البر الى الافراط". فعلينا ان لا نفرط في حق ابنائنا، وان نستخدم الحب كطريق ووسيلة لتربيتهم. اما ان نبالغ في رعايتهم، فان هذه الرعاية سوف تضر بهم، خصوصا وان هذا الجيل من المفترض فيه ان يكون جيل الجهاد، مادامت بلداننا محتلّة، ومادامت حقوقنا مغصوبة وما دمنا بؤساء في هذا العالم. وعلى هذا لابد من ان نربي اطفالنا على الصعوبات، وعلى النظام الذي يختارونه بأنفسهم..
وهذا الاسلوب هو الذي من شأنه ان يخلق الاستقامة في نفوس الأطفال.
٣-علينا ان نربي اطفالنا على حب الوطن وحبّ الناس، وان نجعلهم يشعرون بلذة الاحسان الى الضعفاء والبؤساء، وان نحذر كل الحذر من ان نربّي فيهم روح الانانية والذاتية. فاذا ما قام احد اطفالنا بالإحسان الى صديقه، فعلينا ان لا نؤنبه، بل علينا ان نمدحه ونثني عليه ونشجعه على سلوكه هذا مستهدفين بذلك الله عز وجل، تنمية روح التعاون والايثار في نفسه والآخر وللأسف فانّ هناك ظاهرة مؤسفة منتشرة بين الآباء والأمهات في مجتمعاتنا، وهي انهم يحاولون دائماً - من حيث يشعرون أو لا يشعرون الى تنمية روح الانانية والفردية في نفوس اولادهم، وهذه الظاهرة تتجلى في مجال الدراسة اكثر من أي مجال آخر فتراهم يزقون اولادهم بأفكار وتوجيهات لا تؤدّي إلا الى تخريج جيل اناني، لا يفكر إلا في نفسه ومصالحه فتراهم يؤكدون على اولادهم ان يركزوا اهتمامهم الدراسة من أجل ان يحصلوا على الشهادات العليا، ويشغلوا المراكز، والمناصب الرفيعة التي من شأنها ان تحقق مصالحهم، وتجعلهم يصلون الى ما يصبون اليه من الشهرة والمجد والثروة لأنفسهم، وان لا يهدفوا بتقديم العون والمساعدة الى الآخرين وان (يجودوا النار وراء قرصتهم) كما يقول المثل الشعبي المعروف.
وبالطبع فأننا لا نقصد ان على الأبناء والأمهات ان لا يحثوا ابناءهم على الجدية في الدراسة، والتفكير في بناء مستقبلهم ولكنّ اسلوبهم في هذا الحثّ والتشجيع مغلوط، لأنه يؤدي الى اشاعة روح الانانية والفردية بين اوساطهم، فعليهم بدلاً من تلك التوجيهات، والايحاءات المغلوطة، ان يشجّعوا ابناءهم على الدراسة ولكن من خلال تلقينهم بأنهم اذا جدوا في هذه الدراسة واهتموا بها، فانهم سيصبحون في المستقبل افراداً فاعلين في المجتمع، مقدّمين للخدمات المفيدة اليه، ومؤمنين للكوادر المختلفة التي يحتاج اليها والتي من شأنها ان تجعله في غنى عن البلدان الاستعمارية التي تسعى من أجل ربطنا في جميع مناحي حياتنا بعجلتها.. وبالتالي فان علينا ان نخلق في أنفسهم الروح الجماعية، وحالة التحدّي، وعدم الاستعداد بأي شكل من الأشكال للخضوع للباطل.
٤- وقبل كل هذه الخطوات المتقدمة، لابد ان نغرس في قلوب ابنائنا حب الله جل وعلا. وبذلك يمكننا ان نربّي ابناءنا تربية صالحة، عبر التحدّث عن نعم الله عز وجل لهم، وعن آياته في الطبيعة، وحرصه على ان تكون عاقبته سعيدة في الدنيا والآخرة. وهكذا فان التربية الفاضلة هي التي تصنع جيلا يستطيع ان يتحدى المشاكل والصعوبات، حتى يبني حضارة مجيدة سامية، ومثل هذه القمة الرفيعة لا يستطيع ان يتسنمها إلا الذين ربّوا في أنفسهم روح التحدي والصبر والاستقامة، ووطنوا أنفسهم على الصمود ازاء التحديات الحضارية.
اضافةتعليق
التعليقات