"بين منطوق لم يُقصَد، ومقصود لم يُنطَق، تضيع الكثير من المحبة". هكذا قال جبران خليل جبران في جملته الشهيرة التي رددها محبوه وتناقلتها الألسن، وتمتمتها القلوب، وختمت مصدقة على صوابها العقول، غير أننا نبتعد عن جوهرها شيئاً فشيئاً.
التعبير عن العواطف والأفكار إحدى المهارات التي لا نتعلمها في المدارس، كما إن ثقافتنا لا تشجع على التعبير عن الذات بكفاءة وعملية، هناك خلل حقيقي في منظومة التعبير عن المشاعر، فكم مرة سمعنا الآباء يقولون نضربك لأننا نحبك! نحن نقسو عليك لأننا نريد أن نفخر بك! وبالطبع أنت سمعت عبارة أنا غاضب ومهتاج ومنفعل لأنني حزين! وربما أنت في لحظات التعب أصبحتَ نزقاً لا تُطاق في حين أن ما تحتاج إليه هو طلب المساعدة، أو ربما أظهرت جموداً عندما كان يتوجب عليك الامتنان، أو تظاهرت بالمعرفة التامة وابتسمت عندما كان عليك أن تطرح سؤالاً للاستزادة والتحقق! في ظل كل هذه التشوهات في التعبير عن المشاعر والأفكار كيف يمكن أن تتكون شخصية الفرد؟ وهل تستطيع امتلاك الشجاعة أو تعرف طرق التعبير المباشر؟
ربما أن ما يخيفنا هو ردود الأفعال المتوقعة التي قد نقابلها بينما نحاول أن نسمح لأنفسنا بالظهور على حقيقتها، أو تجارب سابقة أنبتنا ووبختنا أو تجاهلت كفاحنا لكشف حقيقتنا، أو ربما نخجل من تلك الحقيقة، أو نمتلك نوايا أكثر نبلاً مثل حماية الآخر من طوفان المشاعر والأفكار، ومهما تكن الأسباب فكلنا نعتقد أن أسبابنا يعتد بها وتبرر لنا تعبيرنا المشوه عن عواطفنا والأفكار.
هذا التلاعب بالتعبير المقصود وغير المقصود يجعل منا مزيفين وكاذبين محترفين دون وعي منا وإدراك، أكذوبة بعد أخرى، تشوه بعد آخر، وتدليس إثر تدليس، ثم تكتمل الحياة أياماً من القبح الشنيع لتغطي السماوات الرحبة وتلوث الهواء وتخنقه ببقايا الحقيقة، فلا نعود نبصر من الحياة الحقة سوى أشباح مروعة تحاول مجتهدة إعادتنا إلى النقاء الأول، إلا أننا لا نريد من يوقظنا من هذا الكابوس، فلا نعرف كيف نعيش خارج حدوده، ولا نألف ميدان الوضوح ولا ترمي أفواهنا القول المهذب بشجاعة فهو ينحي قبل الإطلاق، فلا حقيقة تشرق في مياديننا، ولا تواصل صادق يغلق المسافات المجوفة بين جزر كل تلك الكيانات العائمة على هامش الحياة.
يمضي الوقت أسرع من قدرتنا على محاربة كل هذا الزيف، ما نحتاجه ليس الندم الذي يعقب مغادرة أحبة لم نخبرهم بمدى حبنا لهم وفخرنا بهم وامتناننا لوجودهم، نحتاج أن نبني عالماً من شجاعة القول وصدقه، ألا تكون معضلتنا الكبرى في الحياة أن نشبه حقيقتنا، ألا نظل الطريق فقط لأن ضعنا بين ركام الأكاذيب.
خطوة بعد خطوة نحو الحقيقة، خطوة بعد خطوة نحو الجمال والإحسان، خطوة بعد خطوة نحو اليسر والراحة.
اضافةتعليق
التعليقات