ها هي عاشوراء الإنسانية أقبِلت علينا من جديد بهلال شهر محرم النحيل الحزين، قد أهزله الحزن وأحنت عنقه المحن على مصاب سيد الشهداء، الحمد لله الذي جعلنا نعيش إلى اليوم ونحن نجدد ارتداء وشاح السواد في قلوبنا بذكرى رحيل الثُلة الطاهرة، والحمد لله الذي كتب لنا عمرا جديدا لرؤية هلال محرم الحزين.
لم أرَ شخصاً ينتظر وقتاً ليحزن إلا لمصاب سيد الشهداء، فالموالين له يعدّون الشهور ليصلوا الى محط الشهر الحزين، حزناً وبكاءً ومواساة لمصابٍ جلل حدث بأبشع صور الإجرام لأشرف خلق الله وأقدسهم، لآل النبوة وسلالة العترة الطاهرة وإحدى الثقلين ووصية الخاتم وهذا لا يحدث إلا مع مقتل الحسين (عليه السلام) وفادح فاجعته.
كم أنت كريم يا رب فرزقتنا بهذه المنة الكبيرة، نحن بجوار المولى ونشاهد مراسيم تبديل الرايات الحمر بالسود، ونسمع صوت الطبول التي تقرع قلوبنا والعقول سوية بالتحية والسلام على سيد الشهداء، نسمع أصوات اللطم والزنجيل والأصوات التي تنادي باسم عشيقها الحسين فيرتعش جسدنا لا إراديا، نشم ذلك النسيم الخاص الذي يعطر كل كربلاء بنسماته الروحانية العاشورائية، نرى السواد من جديد يوشح أجسادنا ومنازلنا وكل شيء، الحمد والشكر لك يا رب حمدا كثيرا حتى يبلغ الحمد منتهاه.
كل شيء في الحياة له عمر أو مدة صلاحية لينتهي إلا سيد شباب أهل الجنة، الحسين بن علي (عليهما السلام) لا ينتهي مهما بلغت أعداءه ذروة اطفاء شعاعه يشع أكثر، كلما يتقدم الزمان يكثر محبيه وأنصاره ومواليه، كم منعوا الوصول لمرقده الطواغي وأغلقوا الطرقات لا بل ليس كذلك فقط وإنما جعلوا الوصول له مقابيل قطع أحد أعضاء الجسم سواء رجل أو يد مع ذلك يأتون الموالين، بكل قواهم العشقية نحو قبلة العشق الأبدي والارتياح النفسي والجمال القدسي، يأتون بكل شغف واصرار نحو الثائر الحر ليفتدونه بأرواحهم ويقولون له بمجيئهم إليه: لبيك يا حسين. أنت لست بمفردك إن الله خلقنا لأجل حبك ولوله عشقك ولجنون محبتك، فنحن العوابس مجانين الحسين، لبينا ندائك وها نحن أنصارك وتحت لوائك فبحق أجدادك وذراريك نطلب شفاعتك في الدنيا ومرافقتك في الآخرة.
نحن أنصارك ولست بمفردك لتطلب النصرة، يا حسين يا له من اسم صداه قد وسع الأكوان وأغمسهم حباً وعشقاً، ودموعاً أجمَّرتها حرارة المصاب ولذعتها حرمة الشهيد المضام، وانجذاباً له باللاوعي واللاشعور يأخذك لعالم عبق الشهادة المقدس، يا لها من معادلة عكسية فكل من يموت ينتهي ذكره ويتناسوه الأهل والأحبة مهما بلغت معزته بين الأقارب والقبيلة يتلاشى ذكراه ويتركه الجميع شيئاً فشيئاًز
لكن المطاردة العكسية هنا كيف برجل وقور قد قُتل قبل آلاف السنين يزيد حبه في قلوب العاشقين؟ وليس ذلك فحسب، ويأتونه مشياً على الأقدام ويقدمون له الغالي والنفيس ولا يرجون من الله سوى أن يتقبل أعمالهم بأحسن قبول، ونرى تكاثف حصول المعجزات الغيبية بقضاء الحوائج المستعصية وشفاء المرضى ببركة الاستجارة بباب الله الواسع وهو الحسين الشهيد ليس من شيعته فقط بل وحتى أنه لم يترك من استجار به وتقرب له بقضاء حوائجه من جميع الطوائف والمذاهب.
انه لجميع الملل والأقوام، إنه حسين الإنسانية، حبه خالد وجسده راقد في الضريح، أما روحه فترانا وترعانا وتنظر إلينا في كل حين وكذلك ترد علينا السلام عندما نبلغه منا التحية والاكرام، الحسين علم شامخ وصوت حر ثائر ينادي ويصدح بأذن كل فاجر (هيهات من الذلة)، الحسين من النعم الأكابر التي رزقنا الله بها، فعرفنا ببابه الواسعة (باب الحسين)، وهنا يجب أن نجب على ما يحدث من معجزة عظيمة يتأملها العقل وتستسيغها النفس كيف يمكن لأبي الأحرار أن يتميز بهذه الميزة رغم أعداءه الطواغيت الذين مارسوا جميع صور الاجرام بحق محبي الحسين (عليه السلام) ومواليه.
لم يكتفوا بذلك بل إنهم هدموا ضريح سيد الشهداء مراراً وتكراراً بعصور مختلفة، والمعجزة أن الضريح يبنى من جديد ليكون أوسع وأكبر وأجمل من السابق بمشيئة الخالق، وهم لم يحصلوا إلا اللعنة والعذاب الأليم من الرب الكريم قال تعالى: [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] التوبة ٣٢.
فهذا الحسين علماً ومناراً وشمساً لا يمكن النظر إلى شعاعها الساطع من شدة سطوع لهبه المتوهج الدامغ لعدسة العين العاجزة، فلماذا يحصل كل هذا فقط مع الحسين (عليه السلام) وما هذه الميزة العجيبة التي لم تحصل مع نبي أو وصي غير الحسين (عليه السلام)؟.
الجواب أن الحسين أعطى فلائذ أكباده، عزيز بعد عزيز قدمهم قربة لله تعالى، شاهد مشاهد تزلزل الجبال وتبكي السماء دماً بيوم عاشوراء وكل ما جرى به من ألم ومصاب وهتك قدسية كان قلبه وجسده مسلماً لرب الأكوان فبكل تسليم للواحد الأحد قال: (اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى)، ونحن نعلم من يعطي في سبيل الله قطرة يغيثه الله بالمطر لأنه كريم واسع الجود والكرم، فما بالك بالذي يفدي حشاشاته وأفلاذ كبده واحدا تلو الآخر نحو مجزرة المجد والخلود فداءاً للرب وتسليماً لقضائه المحتم دون أي اعتراض.
وكانت الرسالة لم تتم بمجزرة الآل فحسب بل كان لابد أن يكون السبي فرسالة الحسين لم تتم إلا بعقيلة الطالبين زينب بنت علي، إعلامية الثورة ومخرسة السلاطين وجبل الصبر وربيبة الهدى والتقوى والوحي، فقالت بوجه الطاغي: (يا يزيد فاسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا يذهب عنك عارها.... يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين)، حيث كان يظن الطاغي أنه سيراها مكسورة أو مهزومة، فانبهر بقدسية جوابها وقوة موقفها وصلابتها وصمودها فلم تكن فقط امرأة بل كانت جيش الحسين الرسالي الحر، فيا إلهي لا تحرمنا كربلاء الحسين ولا تحرمنا دموعنا على الحسين وتوفنا على حب وشفاعة الحسين بحق الحسين عليك يا رب العالمين .
اضافةتعليق
التعليقات