فضوليون بالفطرة تنتابنا التساؤلات دوما كيف يمكننا أن نتخلص من هذا العبئ الذي ولد معنا وأبح بمرور الأيام شعوراً معتّقاً فخماً نميل فيه إلى زوايا مظلمة متجهين نحو فراغ لا نعيه يشحذ الصمت على أطرافه.
أحيانا ينتابنا الشلل ونقف مطالبين القصاص من كل اللحظات التي آلمتنا متخلين عن ذلك السلام الداخلي الذي ينقص رصيده كلما قررنا أن نقتص من لحظة تالية مدت يديها لتجرحنا، فنذهب تائهين بين أروقة الكلمات المسموعة وأخرى منها مكتوبة لعلها تشفي جراحنا الملتهبة التي باتت تودع آخر رمق من سلام النفس، وأنا في طريقي باحثة عن سلام قد ضاع داخلي تعثرت روحي بذكر من هم خير الناس في الوصايا أولئك الذين كان حديثهم قرآناً متنقلاً يفصل الكلمات على قياس كل منا ويعيد النفس إلى اطمئنانها، وهكذا قرأت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في آخر لحظات حياته كيف كان يحيي سلام النفس ويفضلها على الغيظ، حين قال في وصيّته للعفو عن قاتله: (إِن أَبقَ فَأَنا وَلِي دَمِي، وَإِن أَفنَ فَالْفَناءُ مِيعَادِي، وَإِن أَعفُ فَالعَفوُ لِي قُربَةٌ، وَلَكُم حَسَنَةٌ؛ فَاعفُوا وَاصفَحُوا أَلاَ تُحِبونَ أن يَغفِرَاللَهُ لَكُم.
فَيَالَهَا حَسرَةً علی كل ذِي غَفلَةٍ أَن يَكُونَ عُمرُهُ عَلَيهِ حُجةً، أَوْ يُؤَديهِ أَيامُهُ إلی شَقْوَةٍ؛ جَعَلَنَا اللَهُ وَإِيَّاكُم مِمن لاَ يَقصُرُ بِهِ عَن طَاعَةِ اللَهِ رَغبَةٌ، أَو يُحمِلُ عَلَيهِ بَعدَ الْمَوتِ نِقمَةٌ، فَإِنَّمَا نَحنُ لَهُ وَبِهِ).
الشعاع السادس: العفو والصَّفْحَ
إن عفو أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قاتله هو أعلى مستوى من الكمال الروحي وأعلى مرحلة من التضحية بالنفس، وهو من أخلاق الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، حيث يقول تعالى في محكم كتابه في سورة آل عمران {وَ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالارضُ أُعِدت لِلمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}.
وهو مانصت عليه خطبة المتقين للإمام علي (عليه السلام): «يَعفُو عَمَّن ظَلَمَهُ، وَيُعطِي مَن حَرَمَهُ»، ويشير الإمام علي (عليه السلام) هنا إلى أحد الأبعاد لروح المتقين، وهو صفة العفو والصفح وتتجلى هذه الصفة الجميلة في مختلف المظاهر، وهنا لا تعني أن يتجنب الشخص التقي فقط الكلمات السيئة والسلوك غير اللائق، بل يعامل الآخرين بالتعبير الناعم واظهار الاحسان وتقديم اللطف بهم، وإن الله جل جلاله واسع الرحمة والمغفرة، كما وصف ذاته المقدسة في محكم كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوا غَفُورًا)، وهنا يعني أن تتّصف بصفات الله جل جلاله وبأخلاق بيت النبوة، فهو الجميل بعينه، والله تبارك وتعالى قد حثنا على أن نكون من أهل الصفح الجميل عمن ظلمنا وأساء إلينا، قال سبحانه: (وَمَا خَلَقنا السَّمَاوَاتِ وَالأرضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَإِن الساعَةَ لآتِيَةٌ فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ)،وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا".
إذاً تُعتبر صفة العفو والصفح الجميل من أجمل مكارم الأخلاق التي يتخلّق بها المؤمن في الدنيا والآخرة، بل هي تاج المكارم كما يُعبر الإمام علي (عليه السلام): "العفو تاج المكارم"، ولهذا السبب يُعرف العفو والتسامح على أنهما "زكاة السلطة" فقادتنا الأتقياء، الذين دعوا الناس إلى التخلق بهذه الصفة الراقية، كانوا هم أنفسهم قدوة الآخرين في هذا الصدد، فعلى سبيل المثال أصدر نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) عفواً عن قاتل عمه "حمزة"، و الحال أن قتل هذا البطل العظيم قد وجه ضربة كبيرة لروح رسول الله والمسلمين عامة، كما أصدر الإمام الحسين (عليه السلام) عفواً عن حر بن يزيد الرياحي، الذي منعه من الوصول إلى الكوفة وأوقفه وأصحابه في كربلاء.
آثار وبركات التخلُّق بصفة العفو
1- إنّ عفو الناس بعضهم عن بعض يُزيل الضغائن والأحقاد فيما بينهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "تعافوا تسقط الضغائن بينكم".
2- إن اتصاف المؤمن بصفة العفو يزيده عزّاً كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فتعافوا يُعزّكم الله". ولا تحسبوا أنّ العفو عن الآخرين فيه ذلٌّ لكم.
3- إن كثرة العفو والصفح الجميل عمن ظلمنا يزيد في العمر، قال نبيُّ الرحمة (صلى الله عليه وآله): "مَن كثُر عفوه مُد في عمره".
فهنيئاً لمن فاز بهذا المقام، وهنيئاً لمن سيفوز بأجر الله تعالى الذي وعد به في محكم كتابه العزيز: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
اضافةتعليق
التعليقات