"ليس الجمال بأثواب تزيننا.. إنّ الجمال جمال العلم والأدب".. هذا ما تعلمناه صغاراً ونحن نشاهد بانبهار قناة شباب المستقبل سبيستون، أو نقف في اصطفاف صباحي ممتثلين أمام هيبة العلم العراقي يوم الخميس، ذكرياتي واضحة عن أمي التي تشحذ فينا الهمم، وجدتي الحكيمة التي كانت ترى في العلم حياةً وترعانا بأعينها حتى ننال مراكزاً عالية رغم إن حظوظها في التعلم كانت بسيطة، هكذا نشأت، وهذا كل ما تعلمته... لا قوة ولا رفعة ولا تميز ولا نجاح ولا عيش يصفو إلا بالعلم، وهذا ما كان عليه جيلي.
ثم مر قدر من الزمان وجاء الآن، الآن المغرق بالظلام، الآن الذي لا تقوم فيه قائمة للعلم، الآن الذي لا يحترم فيه الصغار وأهلهم العلم والمعلمين والأنظمة التعليمية ويبدون سخطاً منها على الدوام، الآن الذي لا يحترم فيه الأستاذ مهنته، ولا تهتم فيه الدولة بمخرجات التعليم وتدير فيه العملية التعليمية بتخبط تام.
يشعر من عاش في حقبة سابقة ويعيش أيامنا هذه بأنه يعيش أسوأ كوابيسه. فيحدث أن تسمع أن أساتذة فقدوا هداهم وقاموا بسلوكيات يندى لها الجبين، أو أن تلتقي بطلاب جامعيين غير مكترثين لدراستهم ولا يوقرون أساتذتهم، هم الذين يُفترض أن يمثلوا أرقى فئات المجتمع، الفئة التي بنت، واحتجت، غيرت قوانين وسياسات، وصنعت التأريخ في السابق غير البعيد.
حتى الرسوم المتحركة أصبحت تروج لكره الدراسة والمعلمين والسخرية منهم، وعدم نفع التعلم وتقدم الفوز على أنه دائماً للكسول غير المسؤول، الغبي، والبذيء.
أصبح من المعتاد أن ترى طلاباً بعمر الورد في غاية الهشاشة يتركون الدراسة لأن الأمر لا يعجبهم أو أنه ممل أو أن المدرسة لا توافق تطلعاتهم، يتركون المدرسة ليشاهدوا مقاطع يوتيوب القصيرة وينامون حتى الظهيرة، والأهل لا يمانعون بل يساندونهم على ذلك قائلين إن كان لا يحب المدرسة فعليه ألا يذهب، وكأننا نتحدث عن نزهة في حديقة بجانب المنزل، الأهل فقدوا القدرة على رؤية الصورة الكبيرة، فنحن لا نقوم بما نقوم به في الحياة من منطلق الحب وحده، فهناك قيم أخرى كالواجب والمسؤولية وغير ذلك مما يستدعي التهام الضفدع كل صباح كما يشيع اصطلاحاً.
الحكومة أيضاً ترى نسب الجهل يتفشى وينتشر، وانسحاب الطلاب من مقاعد الدراسة في إزدياد وهي جالسة بصمت تحدق لكل تلك الفوضى.
ولينتهي هذا الكابوس نحن بحاجة إلى حلول حقيقية منها أن نعيد كأفراد تأكيد تعريف العلم كقيمة سامية كما أكد على ذلك ديننا الإسلامي، فالمُلاحظ لتأريخ الحضارات يرى إن العلاقة بين نهضة الأمم وتقدم العلوم علاقة متبادلة متينة.
أيضاً يجدر بنا التأكيد على أهمية العلم بالنسبة للفرد نفسه ولمجده الشخصي ومستقبله الزاهر. كما إن علينا تعريف المجتمع بالثقافة الحياتية الجديدة للقفزات المتسارعة للمنجز التقني وتأثير ذلك على الحضارة الإنسانية على المدى البعيد، فالعائلة التي ترى إن التعيين الحكومي هو العمل الجيد الوحيد بكل تأكيد لن تشجع ابنها على إكمال دراسته لأن لا نمو وتطور في الحكومة، لكن العوائل التي تشربت ثقافة الحياة التقنية المعاصرة، وأدركت معاني القرية الصغيرة والعولمة، تعلم إن الفرصة الآن سانحة لتحقيق نجاحات وأحلام لا تحدها الحدود، وليس لنهايتها مدى، وكلما كان نال المرء معارف أرقى استطاع أن يكسب الشرف والمجد لذاته، وأصبح لديه قدرة لقيادة وتحريك المجتمعات أكثر من تأثير أي حكومة، ثم علينا ألا ننسى أن تأهيل الوالدين والمعلمين أولوية باعتبارهم القدوة الأولى وموجهي نمو جيل المستقبل.
أما ختاماً التوعية بمخاطر الصور والمقاطع المضحكة الساخرة من الدراسة والتي تقدم التعلم كحمل ثقيل، والتي وإن بدت لا تعني شيئاً إلا أنها ترسخ صور ذهنية بالغة الخطورة لدى الطالب وذويه وحتى المدرسين أنفسهم، إنها ليست مجرد طرفة، هذه الضحكات ثمنها المستقبل الواعد، ولا يمكن للسخرية أن تتسلل إلى كل شيء، هناك خطوط حمراء لا يجب أن يصل لها أحد.
هذا لا يعني إن الجهود الفردية كافية، نعم، نحتاج إلى جهود حكومية متظافرة لإصلاح النظام التعليمي وتجديد المناهج وفق رؤى سديدة مدروسة ومخطط لها ولها أهداف محددة وليس ما يحدث من عمليات عشوائية في تبديل المادة وحسب أهواء ومزاجيات الوزارة،
غير إن الحكومات ليست المصدر الوحيد للإصلاح، فكما إن فرص العمل اليوم عابرة للقارات، كذلك فرص التعلم، ما نحتاجه فقط هو أن نثابر ونعمل أكثر، ونحتاج إلى الإيمان بأن أبسط الجهود الفردية تحدث فرقاً، وحين تتراكم هذه الجهود تصنع المستحيل، لا أن نترك المركب لتغرق ونفقد الأمل كلياً بأشكال العطاء المختلفة.
اضافةتعليق
التعليقات