من غير العجيب أن لا جدوى من البوح الصادق في هذا الزمان العجيب، فإذا كانت آذان السامعين صماء عما لا يخدمها، وعقولهم متصدعة وأرواحهم متكدِرة، واستجابتهم لسماع الحقيقة العارية معدومة تمامًا ولا ضمير مستيقظ يعالج الخراب؛ فما الجدوى من التحدث بعفوية دون محسوبيات ومنسوبيات!.
هناك من صاروا يخافون الحديث دون سابق ترتيب وانتقاء للجمل والكلمات بل وحتى ضرورة اختيار الوقت المناسب للتكلم أو الرد المباشر؛ فبمجرد أنك تعطي رأيك دون تحفظ وتتفوه بما تعرفه بلا زيادة أو نقصان سينعتونك بالساذج أو المخرب، ولو أنك تحدثت وعملت بما يمليه عليك ضميرك "بلا خوف" سيَشْكون بأمرك ويقولون لا ضير في أنه مدعوم من جهة ما؛ وأن تتصرف على سجيتك وتتعامل مع الآخر بصدق سيتهمونك بالتملق أو الانحياز!.
ولو طلبت المساعدة من غير مقدمات ستكون قليل ذوق! وإن أجبت سائليك بالحقيقة كما هي
وبلا مقبلات مغلفة, غالبًا لن يصدقوك، وكلما كنت ناطقًا بالحق نقيًا طيبًا لطيف الطبع تتودد بحسن نية سيظنون بأن لك مصلحة خلف ذلك؛ وسيقذفوك بأبشع الاتهامات وأوجع الكلمات ويقولون كل شيء كل شيء مجحف بحقك ما عدا أنك انسان حقيقيّ!.
في أي جمع مهما كان غفيرا أو بسيطًا ضمن نطاق خاص أو عام، يتجلى حضور لشخصيات ذو اختصاصات متنوعة وطباع مختلفة وسلوك مغاير لكل فرد يميزه عن غيره من خلال المشاركة بالطرح والمحادثة؛ ستجد هناك شخص ضمن الحضور صامت لأبعد الحدود، مترقب نادر الوجود يجلس بهدوء تام ويصغي جيدًا لما يُقال؛ فإن أثار انتباهك وأمعنت النظر في أمره ستجد الكلمات محتشدة على أعتابِ شفتاه عقب كل مشاركة وتعليق، لكنه يأبى البوح بمكنونات ردوده, وكأن هناك مراقب خط يقف أمام سيل الكلمات في فمه يشكل حاجزا يمنعها من العبور خارجًا؛ وإن نطق لن يقول أكثر من جملتين أو جملة مفيدة.
هذا النوع من الأشخاص تحديدًا أستطيع أن أجزم بأنه ألطف من الجميع، متمكن بدرجة امتياز
وأذكى بكثير مما يتصوره عنه البعض من ذوي النظرة العميقة الذين يحترمون صمته مدركين وجود عاصفةٌ ما مخبئة خلف ذاك الصمت والركود لا بد لها أن تظهر، أما البقية يرمقونه بنظرة سطحية يتهموه فيها بالتكبر والتعالي والغرور من جهة, أو ضعف الشخصية والافتقار لجرأة النقاش وقلة المعرفة من جهة أخرى!.
فعندما تلتقي بشخص من هذا النوع إياك أن تأخذ انطباعًا سيئًا بشأنه، لكونك ستندم لاحقًا بعد التعرف عليه بشكل جيد؛ فعن الامام الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام إلى هشام قال: (يا هشام إذا رأيتم المؤمن صموتًا فادنوا منه فإنه يلقى الحكمة)، لذا تأكد أنك حينما تصاحبه
وتقترب منه ستغمرك طيبته وتُعجب بجمال جوهره وتبهرك حكمته القابعة خلف ذاك الصمت الغامض الذي ربما ولِد من رحم حزن باثق جعل منه أشبه بعملة ذا وجهين كل شخص يرى الوجه الذي يختاره له من منظوره الخاص ويتعامل معه بصدد ما يلتمسه ظاهرًا.
بينما يواجه هو وحده الظُلم -فمن لا يعرفك لا يثمنك- يعمل جاهدًا ويقدم انجازاته دون افصاح مسبق؛ مفضلًا عدم البوح جهرًا بل لديه طريقته الخاصة للقيام بعمله وما يتوجب عليه تحت كل المسميات والظروف، متجنبًا المزيد من الأذى مما صُدم بتلقيه من الكثيرين حوله ما جعله متحفظًا هكذا, ويعود السبب لما ذكرناه آنفًا في بداية حديثنا، وعلى أساس ذلك تبقى برائته مصلوبة على أعتاب حديث مكتوم!.
اضافةتعليق
التعليقات