إذا أردنا أن نعرف عظمة مقام الموصوف وحقيقة دوره وشأنه، علينا أن ننظر للواصف والشاهد من هو؟ فكيف إذا كان الواصف والشاهد هو الرسول الأعظم (صل الله عليه وآله) والموصوف هو السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) التي تقاسم معها هموم الحياة والرسالة، وكانت الوعاء الذي حمل ثمرة الجنة الحوراء الأنسية.
إذ ورد أنه قال (صلى الله عليه وآله) في حقها: [قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ،... ](١).
فبمقدار ما كون كلامه (صل الله عليه وآله) في حقها تعريفي ووصفي، هو كذلك منهاج لمن تريد أن تسير بسيرة السيدة الجليلة في حياتها، وهنا نستلهم من هذا القول ثلاث سمات تحلت بها(عليها السلام) في أداء دورها كزوجة رسالية، وهي:
السمتان الأولى والثانية: الإيمان والتصديق قلباً وقالباً
عند التأمل نجد أن تقديم سمتا الإيمان والتصديق الذي اتصفت به السيدة (عليها السلام) تجاهه كنبي وزوج حَملَهُ تعالى رسالته السماوية، وجَعله لخليقته مبشراً ونذيراً، فيه إشارة واضحة لأهمية هاتين السمتين، ولعمق أثرهما المعنوي في سريرته، وشدة الفارق الحاصل والمُحدث في مسيرته، وإلا لَما قَدمهما، ولَما كان قد ذكرهما ابتداءً وركز عليهما.
فهو امتدح فيها ذلك الإيمان والتصديق الذي تجسد بأن تكون نِعم المعينة والمدافعة والناصرة [عمَن] و[عما] تؤمن به، وهذه مرتبة أسمى وأعلى؛ فكما كانت في إيمانها الأولى، هكذا كانت في تصديقها الكبرى.
السمة الثالثة: المواساة بالجاه والوجاهة
إن ذُكر سمة المواساة -كما يبدو- هي التجلي العملي لهذا الإيمان التصديقي، فالمواساة هي أعلى درجات التعاضد في البذل والعطاء، وهي سمة تطلب التضحية، ولعل المال هنا هو كناية بما هو... هو كقوة مادية، وكذلك كقوة معنوية.
فالسيدة خديجة (عليها السلام) كانت معروفة بأنها: [السيّدةِ الطاهرةِ والسيّدةِ اللبيبةِ وسيّدةِ نساءِ قريش](٢)، وهذا كاشف إنها لم تكن تسودهم بالمال والثروة فقط، بل هي كانت تسودهم بالوجاهة والكرامة والعفة والشرف والخلق الرفيع، لذا مواساتها للنبي (صلى الله عليه وآله) كانت بجاهها [مالها] ووجاهتها [منزلتها].
فأن تختار أن تكون شريكة حياة شخص كان ظاهره انساناً فقيراً بسيطاً، لم يعرف المجتمع قدره، ولم يثمنوا مقامه ومكانته؛ وهي سيدة قومها لهي أرفع درجات المواساة.
فليس سهلاً أن يتنازل الإنسان عن حياته المرفهة، المريحة ليعيش حياة ليست بسيطة فقط بل ومحفوفة بالمخاطر والصعاب والمشكلات والأذى، وعداوة الناس ومقاطعتهم له.
ليس هيناً أن يَستبدل الإنسان التحول من حياة كان فيها ممن يُنظَر له بإجلال وتعظيم، أن يتودد له كل من يراه، ليصبح شخصاً معزولاً، لا أحد يطرق بابه ليسأل عن أحواله؛ الأمر جداً صعب خاصة إذا كان هذا الإنسان هو امرأة وليس رجلاً، ولمن عاشت حياة معاكسة تماماً -كما ذكرنا- ولم تعتد على هكذا نمط من الحياة.
وكأنها بذلك أرادت أن تواسيه بوحدته وغربته وزهده، حتى أصبحت له الجميع، لأنه كان بنظرها هو الجميع؛ هي كانت تنظر له فتبصر به كل شيء، فلا ترى أن هناك ما ينقصها، هي كانت ترى أنها غنية به، ولا غنى لها عنه، فبذلت ما بذلت ونالت من القرب من الله تعالى ما نالت.
السيدة الأسوة
وهكذا فكما إن الله تعالى أغنى النبي بخديجة (صلوات الله وسلامه عليها)، وهي قد استغنت بالله عز وجل وبوليه الأعظم؛ هي كانت لنا النموذج الذي لا غنى لنا عنه أبداً، فهذا الدور جداً مهم وأساسي في حياة كل زوجة رسالية تعيش في كنف رجل رسالي.
وهو أن يكون إيمانها وتصديقها به متجسدا بالعمل، أن تجعل السيدة خديجة (عليها السلام) النموذج الذي تتعلم منه، وتتقوى به على هذا الدور؛ فكون هذا الكلام صادر عمن لا ينطق عن الهوى، موجب للالتفات والاعتناء به، والسعي لإيجاده وصنعه في وجود كل امرأة ابتداءً لتكون متهيئة ومستعدة لتؤدي هكذا دور متى ما وضعت فيه.
فهو ليس أمراً تكليفياً بقدر ما هو أمر تشريفي يجعل كل واحدة تسمو وترتقي بوجودها؛ فتكون أكثر تأثيراً ونفعاً وخيراً وبركة لذلك الشريك الرسالي في حياتها، بحيث تستطيع أن توجد الفارق في مسيرته الرسالية، لتكون ممن سارت بسيرة سيدتها، وورثة شيئا من سمات أم المؤمنين والمؤمنات وجسدته في حياتها.
_____
اضافةتعليق
التعليقات