أنهينا اليوم بحمده وقبل المغادرة ناداني العم: (احمد تعال الى هنا... من اليوم سوف يزداد أجر عملك ضعفين وهذه أيضا مكافأة على ما قمت به).
وفي طريق عودتي شاهدت الفرح يرسم على خطواتي خارطة توصلني الى باب بيتي، أخبرت أمي بما جرى فرتلت تراتيل الحمد والمنّة للذي رزق والذي رعى بعين كفالته..
ناولت اجرتي الى أمي وطبعت على يدها قبلة العرفان لجميل دعائها، فاقترحت علي أن أشتري بهذا المبلغ دراجة هوائية كي لا أتاخر في الذهاب الى العمل..
هي تعلم جيدا إنها إحدى اﻷمنيات التي نمت داخل قلبي والتي دفنتها بمقبرة أضلاعي، حينما كنت أرمق ابن خالي وهو يجوب الشارع ويستعرض مواهبه بدراجته، لكن بوصلة اﻷمنيات غيرت وجهتها بعد دخولي الى ارض عامي السادس عشر.
في الصباح كنت متحمس للقاء كرار وصلت إلى نقطة التقائي الصباحي به عند عنق الشارع، شاهدته يعبث بغصن أحد اﻷشجار اليافعة، لم ينتبه لقدومي أطلقت رنات متتالية من منبه دراجتي وأنا أضحك وناديته: (كرار هيا لن تركض بعد اليوم) لوح كرار بيده وكادت روحه تطفر لتزاحم العصافير في اﻷفق (أحمد.. إنك أقوى مفاجآت زمانك) يطلق ضحكات تشوبها أحرف متقاطعة متبعثرة بزغت على شفتيه.
أنطلقنا نسابق قطع الغيوم، التي حملتها رياح الشمال كأن نسيم الصباح الباكر يخبرني بأن القادم أجمل وأن السماء الزرقاء لمدينتي تفتح لي صفحاتها (السلام، اﻷمان، وحتى الإيثار).
أخذت عجلات دراجتي بالدوران كالشمس يتبعها بالظهور القمر، رغم كثرة الحفر التي عرجت الطريق وصلنا الى العمل..
أخذ هذا المشهد يتكرر كلما نزع الليل عباءته السوداء وارتدى معطفه اﻷبيض.
بعد مرور شهرين..
أخبرت كرار أن العطلة شارفت على الانتهاء ولم يبق منها الا نزر من أيام قلائل، سوف نعود الى مقعد الدراسة كما تقاسمنا مقعد الدراجة، تذمر كرار وتأفأف وهو يتمتم (سوف يعود الهم والحزن والواجبات والامتحانات) هونت عليه ما أصابه من ملل ووعدته إننا سنذهب معا على هذه الدراجة.
بعد مضي ساعات طويلة لكنها ممتعة من العمل، عدت الى البيت ﻷلقي برأسي المتعب على وسادتي التي طرزتها أمي بكف حنانها وأسحب غطائي،
ثم ﻷنهض و أمتطي صهوة دراجتي لتسير بي هذه المرة في شارع أخضر.
لقد كان اناس كثر يمشون وأنا بالكاد أستطيع أن أجر عجلات الدراجة وسط هذا المسير، سحرني وجه نوراني لرجل قد تدلى وشاح أخضر حول عنقه ناداني: (بني يصعب عليك ركوب الدراجة في مثل هذا الطريق.. أتركها جانبا وتعال أركب معنا).
نظرت واذا مجموعة من الشباب يحملون أعلاما مكتوب عليها: (يا لثارات الحسين)، قد رفرفت وهي تحكي قصصها، بهرني المنظر، تركت دراجتي من دون وعي، مددت يدي لذلك الرجل وأنا أحاول الصعود خلفه غير أن يد أخرى سحبتني من كتفي لتعلن نهاية الحلم..
كان حلماً حقيقاً تستطيع تسميته بذلك بما أنني قد عشت فيه بروحي..
كان ذلك في أول صباح دراسي من السنة الجديدة.
ركبنا أنا وكرار الدراجة سوية فرحين بها.. وفي المدرسة، قصصت لكرار ما رأيت في حلمي، قلت له أنني واثق من أن الحلم سيصبح حقيقة بكيفية ما،
ضحك كرار وهو يحاول مسح جدية الموضوع، غضبت منه قليلاً فقال لي: (لقد أصبحت غليظاً، نحن في أيام صبانا، ما لك تفكر بهذه الطريقة؟، سوف لن أتكلم معك بعد اليوم).
قالها وذهب بعيداً، أحسستُ أنه أراد بهذا أن يعتاد على فراقي يوماً ما،
رجعت إلى منزلي بعد انتهاء يومي الدراسي، متعباً جسديا، مغمورا روحياً بنبضات عشق جديدة، لاحظت أمي تغيرات وجهي، افترستني بعينيها اللتين طالما علمت بهما ماذا يحدث لي، كقارئة فنجان خبيرة بعملها..
(ولدي العزيز، ما بك وقد بانت علامات الحزن والفرح ممتزجة بعينيك؟)..
أجبتها: (لا شيء يا أمي،لا شيء)..
قالت: (إذن اين كرار، لمَ لم يأتِ ليأخذ ما قد نسيه عندنا البارحة؟)..
وكان ردي:
(لن يأتِ يا امي).. أكملت واجبي المدرسي بجد، ذهبتُ عصر اليوم ﻷكمل عملي عند عم كرار، قد رأيت كرار هناك، حاولتُ التقرب منه إلا إنه رفض، كان كأم تخاف على إبنها من لعبة خطرة يريدها بشدة..
جاء الصباح التالي محملاً برائحة القرنفل، كان من أجمل الايام ولا أعرف السبب ولم أكن أريد أن أعرف، فقط كنت أريد أن أعيش تلك اﻷحاسيس بعمق..
ذهبت إلى المدرسة وهذه المرة وحيداً على دراجتي، ركنتها في ساحة المدرسة الخلفي لم يكن مثل سابق عهده لقد بدأ أجمل بكثير..
المدينة كلها في ذلك اليوم كانت أجمل حتى إن صوت جرس المدرسة المخيف كان عزفا موسيقياً ترقص على لحنه ألوان الطيف الشسمي متنقلة بين جدران المدرسة..
انتهى الدرس اﻷول فالثاني، ليأتي الدرس الثالث خالياً من مدرسنا،
جاء من يخبرنا بأنه يخشى إن مدرس الحصة لن يحضر بسبب قراره للالتحاق بالحشد الشعبي وذهب الى هناك بعد فتوى المرجعية العليا..
تناثرت الكلمات من رأسي وأصاب الشلل عضلات لساني، أمسيتُ أرى الحلم أمامي بوضوح..
أنطلقتُ مسرعاً باحثاً عن مدرسي، قلبي يجرني إلى الخلف لموادعة صديق بطعم اخ إلا إن الخوف من المدرس سيذهب ويتركني.. كان أقوى من مشاعري تلك، قادني إلى مبتغاي بعد بحث في غرف إدارة المدرسة..
ناديته والعرق يملأ جبيني وصوتي مقطع بلهاثي كأني كائن جائع جاء بحثاً عن لقمته..
_(أستاذ، أستاذ أريد أن أذهب معك)..
رد علي: (لكنك ما زلت صغيراً يا ولدي، اذهب ﻷمك).
سقطت الدموع على وجنتي، تسربت الآلام إلى جسدي النحيل، رأيت أحلامي وهي تسقط من أمامي..
اندفعت بأقصى ما لدي، خاطبته:
(أستاذ، ألم تر علي اﻷكبر كيف أبلى بلاءا حسنا مع أبيه الحسين وأصبح اسمه مخلداً حتى هذه اللحظة)، شعر اﻷستاذ بصدق مشاعري، مسح على رأسي بيديه التي ارتسمت عليها خطوط التعب وهو يخطى هذه الدنيا..
_(حسناً ولكن بشرط، أن تستاذن أمك أولاً).
أجبته موافقاً، لكن جسمي المثقل بأشواقي الى تلك الساحة منعني من أذهب لها، فطلبت منه الهاتف الخلوي ﻷتصل بها،
كنت خائفاً حينها، خفت من رفض أمي لذلك العمل، لكن داخلي كان يصرخ: "يا لثارات الحسين"..
أخبرتها بنيتي، وكان الجواب صادماً..
(اذهب يا ولدي، لا تترك الحسين من دون أنصار)..
غمرتني السعادة وأنا أسمع كلمات أمي..
مر يومان ودراجة أحمد في الفناء الخلفي قد تلونت باللون اﻷصفر بسبب تراكم الغبار عليها، يراها كرار من بعيد كل يوم، يتمنى أن يسأل عن صديقه لكن يتصرف بكبرياء ولن يتنازل بسهولة ليس هذا فقط فداخله كان مليئا بالخوف، كانت أحاسيسه كلها تخبره بأن لا يسأل عن أحمد، أتى اليوم الذي رأى فيه عمال المدرسة وهم يحملون الدراجة، لم يطاوعه قلبه على الانتظار، صرخ بهم: (الى أين تاخذونها، أنها ملك صديقي)، امتزجت الكلمات بنبرة حزن كادت ان تسقط الدموع بغزارة،
لم تنتظر الكثير لتنزل فقد أخبروه بأن الدراجة ستنقل إلى ساحة المدرسة الرئيسي لتصبح نصب شهادة يُرفع عليه علم الوطن..
اجتاحت عاصفة البكاء جسم كرار، لم يتحمل خبر فقدان أخ عزيز مثل أحمد..
كانت روح أحمد تدور حول صديقه، تنثر الزهور، تخفف عنه، تربت على كتفه لتقول له: (لاتحزن يا صدزيقي، فأنك قادم إلي بعد مدة قصيرة...).
اضافةتعليق
التعليقات