إن موضوع تجنيد النساء في هذا العصر والمغالطات المرتبطة به أمر واسع الحدود ومثير للجدل، ومن المعلوم صعوبة المرور السردي على كل أطرافه، فقد قامت العديد من الدول أمثال كوريا الشمالية والنرويج والصين ودول أخرى بفرض خدمة التجنيد الإجباري على النساء، الاّ أن اسرائيل تحديدا إستطاعت أن تحطم رقماً قياسياً في عدد المجندات بالجيش بعد أن أبدت ألف فتاة رغبتهن في الالتحاق بالجيش الذي يفرض التجنيد الإجباري على النساء منذ سن الـ 18 وقد وصلت نسبة الفتيات في الجيش الإسرائيلي إلى أكثر من 33% وتصل مدة تجنيدهن إلى عامين بحسب روسيا اليوم.
يا ترى لماذا العدو يحاول توسعة قوته في المنطقة؟، الأمر جلي وواضح فمادامت قوة كل بلاد تقاس بجيشها فليس من الغريب ان تشاهد كل دولة تسابق اخراها بتعظيم قوتها العسكرية تحسبا لأي هجمات أو حروب تقام ضدها، فبحسب مقولة الجنرال جورج سميث باتون جونيرو، أحد أشهر القادة العسكريين الأمريكيين في الحرب العالمية الثانية أن: "الجندي هو الجيش، ولا جيش أفضل من جنوده».
ولأن الحروب اليوم تلعب على أوتار عديدة فمن الطبيعي أن تشاهد تنوعا في الساحات العامة، بين العسكرية والإعلامية والسياسية والثقافية، ولأن كل ساحة تحتاج الى سلاح يناسبها فليس من المعقول أن يُستخدم القلم في ساحة القتال وتُساق الدبابة إلى الفضاء المجازي!
فلكل مقام مقال، ولكل جبهة أداةً حربية تناسب الشخص المجند سواء كان رجلا أو امرأة، ولأن ساحات القتال تعددت بفحواها، كذلك التجنيد أيضا تعدد بمفهومه، فمثلما هنالك حربا عسكرية كذلك هناك حربا فكرية، ومادامت الحرب الفكرية موجودة إذن الساحة تحتاج إلى جنود مجندين فكريا، لتصدي أي هجمات خارجية قادمة من العدو للحفاظ على أمن الأمة وسلامة الفكر المحمدي الأصيل.
ولأن المرأة اليوم تمثل عمود المجتمع وصانعة الانسان، فبالتأكيد لن يتردد العدو في ضرب الكيان الأساسي، فعندما يتم هدم المرأة ستفشل المنظومة المجتمعية من تقديم نماذج فذة الى العالم وستنخرط الأمة الى مبتغى العدو!
ولهذا أكد الإسلام على تعزيز مكانة المرأة في المجتمع وتفعيل دورها وتغذيتها فكريا وثقافيا حتى تتمكن من مواجهة الهجمات الفكرية او الرد على المغالطات التي تحصل.
وعندما نتطرق الى موضوع التجنيد الفكري فأي مثال نسوي أعظم من السيدة الزهراء (عليها السلام) والدور الكبير الذي قامت به في تثقيف النساء وتجنيدهن فكريا وتحصينهن بمعلومات وحقائق لا تقبل الخطأ قبل قرون عديدة من خلال محاضرات تلقيها لمجموعات نسوية مختلفة من داخل بيتها البسيط.
"فكانت تعلّم النساء ما يشكل عليهنّ من الأحكام الشرعيّة والمعارف الإلهيّة الضروريّة، وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها" (شرح ابن أبي الحديد، ج٩، ص١٣٤.)
وهذه الحركة بالتأكيد لم تأتِ عبثا، انما أتت من اجل توكيد موقف النساء في ذلك الزمن، وتوضيح موقفهن تجاه الأحداث والهجمات التي ستحاول ضرب الإسلام فيما بعد، إذ استطاعت سيدة نساء العالمين من تعبئتهن دينيا وثقافيا ووضحت كافة القضايا والإستفهامات التي شغلت الرأي العام في ذلك الوقت، ليتمكنّ النساء بالبصيرة أن يميزّن طريق الحق من الباطل.
وكل ذلك كان في سبيل تصحيح بعض المفاهيم التي تحفظ سلامة وإستمرار النمو السوي لكيان العقيدة الإسلامية، وتجديد قدرة المرأة الفاعلة في المجتمع، لأن صحة الأمة الإسلامية ترتبط باطراد التوسع الفكري الذي يحقق المصالح والأهداف المشتركة بين الرجل والمرأة والتي من خلالها تتحقق غاية الإسلام الفعلية.
لتكون كل امرأة على مختلف العصور جندية في طريق الحق بموقفها وكلمتها وبصيرتها التي ستقودها نحو الهدى جنبا بجنب الرجل، وأدت السيدة العظيمة هذا الدور من داخل بيتها البسيط وبإمكانيات جدا متواضعة لتوصل لنا رسالتها العميقة بأن المرأة في كل زمن يجب ان تثقف نفسها وتطور من أفكارها وتلتمس الأفكار السليمة من منابعها الصافية لتحافظ على طهارة روحها وتوجه المجتمع نحو الصلاح وتساند الدين في الحفاظ على العقيدة الإسلامية من التلوث.
وكل امرأة حضرت في ذلك البيت الكريم وغرفت من معين علم الزهراء (عليها السلام) استطاعت أن تعرف الحق وتواجه الطاغوت وتميز بين الخير والشر وتشاهد الحقيقية ببصيرتها، ولم يتمكن الاعلام الزائف والمضلل والطرق الملتوية في ذلك الوقت من خداعها إذ أنها تجندت فكريا على يد أعظم امرأة في العالم، "فذكرت بعض الكتب أنّ بيتها [عليها السلام] كان المدرسة النسائية الاُولى في الإسلام، حيث تقبل عليها النساء طالبات للعلم، فيجدنَ فاطمة العالمة وهي تستقبلهنَ بصدرٍ رحبٍ لا يعرف الملالة والسأم" (سيدة النساء: ٧٦).
ونستنتج من هذا الموقف الفاطمي أهمية المعرفة والتحصين الفكري الذي سيزود المرأة بغربال البصيرة الذي ستتمكن من خلاله فصل الحق عن الباطل بكل سهولة.
ولكن اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين كيف يمكن أن نجنّد أنفسنا على خطى السيدة الزهراء (عليها السلام)؟
-ايقاظ العقول: يعتبر تحفيز قدرة الانسان على التفكير هو الشرارة الاولى لإيقاظ العقل، فقد قالها من قبل الفيلسوف الفيزيائي "رينيه ديكارت": (انا أفكر اذن انا موجود)، فعملية التفكير هو تثبيت البيان المعرفي لوجود الانسان في الحياة ومن خلاله يستطيع الوصول إلى قلب المجتمع ويلتمس كل تناقضاته ويفرق بين النافع والضار، الاّ أن التفكير غالبا يحتاج الى مصادر موثوقة للتعامل مع الاستفهامات المطروحة والرد عليها حتى يتم اشباع الغرائز العقلية تماما من مصادرها الصحيحة، وهذا الأمر يتطلب مراجعة الأشخاص المناسبين والمختصين في الأمر، ومطالعة الكتب التي لا تشوبها شائبة اذ أننا لا ننسى بأن على المجتمع الإسلامي حربا فكرية صعبة يقوم العدو فيها بطرح الأفكار والمعتقدات المنحرفة من خلال الكتب والمجلات أو البرامج التلفزيونية تحت مسمى التطور والحرية ومواكبة العصر!
فمن المهم جدا أن تُحصن النساء نفسها من الأفكار السامة التي تطرح على المنصات ذات الفحوى الرديء وإختيار الكتب ذات المصادر الموثوقة والتي تنمي العقل وترفع من المستوى الفكري والثقافي للمرأة.
-تربية روح المخاطب: إن أول ما يتميز به النشاط الفكري هو الوعي والبصيرة، فالعمل في توجيه المجتمع وبالأخص الشريحة النسوية يحتاج إلى مقومات خاصة تتوفر في الخطيب، وبالأخص في محور مناقشته للثغرات التي يعاني منها المجتمع وملامسته للمشاكل بصورتها الواقعية والترفع عن المثالية والتوقعات العالية، لزرع المقبولية والثقة في روح المخاطب وتهيئة الأرضية المناسبة لزرع المفاهيم الأخلاقية والعقائد السليمة والوصول معه الى مستوى التأثير المطلوب، وان يمتلك الخطيب سعة الصدر في احتواء استفهامات المخاطب، والتأًسي بأخلاق السيدة الزهراء فقد "حضَرَت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليكِ اسألكِ، فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك، فثنّت [أي سألت سؤالاً ثانياً] فأجابت، ثم ثلّثت [أي سألت سؤالاً ثالثاً] إلى أن عشّرت [أي سألت عشرة أسئلة] فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أشقّ عليكِ يا ابنة رسول الله.
فقالت عليها السلام: هاتي وسلي عمّا بدا لك، إنّي سمعت أبي يقول: إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور" (بحار الأنوار: ج٢، ح٣، ص٣).
-صناعة الانسان: إن عملية صناعة الانسان هي من أعظم المهام التي تقوم بها المرأة على مر الزمان، وإن الأمة بدون اشخاص صالحين تسير نحو الفناء، وإذا فكر الانسان بهذا الأمر لوجد الدليل على هذا المعنى واضح، وأن هذا الكلام لا يحتاج الى الاستدلال لأن الدنيا من دون انسان صالح ستكون عبارة عن ظلام، ولن يتحقق المضمون الإلهي في خلافة الانسان على الأرض دون وجود عامل الصلاح في البشرية، وهنا بالتأكيد تلعب المرأة دورها في بناء الشخصية الصالحة.
وما نحتاجه اليوم هو توعية النساء أكثر حول هذا الأمر من خلال المحاضرات والكتب واقامة الورشات وتفعيل المنابر الحسينية وتوجيه النساء واستغلال أي مساحة كلام يمكن من خلالها طرح فكرة ما حول أهمية تنشئة جيل صالح يميز الصديق من العدو ويشخص الحق من الباطل.
اذ أن إسرائيل لم تكتفِ بتجنيد النساء عسكريا بل طورت الأمر الى الفكرية لتعرّف النساء بأعدائها وبخطورة الوضع الذي هم فيه اليوم ليكونوا دائما على استعداد تام للمواجهة.
وكذلك داعش وغيرها من الدول المعادية للإسلام جندت الكثير من النساء فكريا واستغلت عقولهن في دس الأفكار السامة والمعتقدات المنحرفة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي حتى تمكنت من السيطرة على اعداد كثيرة من غير المحصنات فكريا وقيادتهن الى الإنحراف والتضليل والتفجير والقتل والدمار.
ولأننا على يقين تام بأن هدف العدو كان ولا يزال واحدا منذ الاف السنين وحتى اليوم، برغم اختلاف مسمياته ما بين (معاوية وداعش وإسرائيل..الخ)، اذن على النساء اليوم التعامل مع الوضع بجدية أكبر وتحمل المسؤولية وان يكونوا على استعداد تام لأي هجمة فكرية او ثقافية يريد بها العدو ضرب قداسة المرأة وتشويه الفكر المحمدي الاصيل وطمس الهوية الإسلامية فيها، وهذا الأمر لا يتحقق الاّ اذا عملت كل امرأة بتكليفها وحصنت نفسها وعائلتها والدائرة النسوية المتواجدة فيها من دنس الأفكار الغربية وتعاملت مع الوضع بالضرورة من منبرها الخاص، وقاومت كل الإغراءات التي يقدمها العدو على اطباق من ذهب، وتمسكت بنهج الزهراء وسارت على خطاها والتزمت بتعاليم الإسلام ومهدت الطريق لها ولغيرها للوصول الى الصلاح والهدى في تحقيق الغاية الإسلامية في العالم..
اضافةتعليق
التعليقات