لم يُجعل له عينين ولا لسانا ولا شفتين.. ولم يُهدَ النجدين كما الانسان، لكنه جماد مثلي نسبّح الله في كل آن. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
لكنكم أنتم البشر غافلون مغيّبون، غطّت بصائركم سُحُب الارتياب، ورانت على قلوبكم أغشية المرية والحجاب، لا تفقهون تسبيحنا ولا تدركون تحميدنا..
هو منبر يعتلي صهوته الخطباء المفوّهون والدعاة إلى الله بألسنتهم، يبتغون الاصلاح ما استطاعوا لذلك سبيلا.. منبر يتكىء على جداري، أسمع أنينه ولواعجه.. ينوح كثكلى فقدت وحيدها في يومٍ سرمدي الحزن، يذرف دمعا سُجاما من مقلتين غائرتين، يستاف عطر النائحين على سيد الشهداء، يبكي مع بكائهم..
يولول بصوت فجيع يفطر القلوب قائلا: ليت من كساني زبرج الحياة، يبحث في الأزقة المنسيّة عن الحالمين بغد أجمل، عن الموجوعين والمتعبين والفاغرين أفواههم للسماء، عن الخاوية بطونهم والقائلين لإخوانهم هلمّوا الينا فنحن ورب الكعبة جياع.. والجوع _ ياسادتي _ كافر، فليتني كنت رغيف خبز يشبع بي مسكينا ذا متربة، أو يتيما ذا مقربة..
ربّاه.. إنه يضج في مناجاته ضجيج المكروبين، كأني به يحترق جوىً بحزن مشبوب، وهو الأسرع اشتعالا وتفحما من كل عناصر الحياة.. ربّاه دلّني على الطريق لأطفىء نقمته وناره وسعيره، لأضمّد جراحاته المنكوءة زمنا طويلا، أوَ ليس هو شبيه تلك الأعواد، التي اعتلاها زين العباد يوم خطب في أهل الكوفة بعد استشهاد أبيه والجرح لمّا يندمل وهو يقول: (أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من قتل صبراً، وكفى بذلك فخراً).
بلى هي ذات الأعواد المزركشة، تنوح وتبكي.. وتئنُّ وتشتكي، وترفع ظلاماتها لرب الأكوان.
إنها والله بنات ذلك الجذع، الذي ناح بين يدي رسول الله شوقا وحنينا إليه.. وما هدأت زفرته ولا استكان أنينه حتى احتضنه رسول الله ومسح بيده الشريفة عليه قائلا له: اسكن فما تجاوزك رسول الله تهاوناً بك، ولا استخفافاً بحرمتك ولكن ليتم لعباد الله مصلحتهم..
ألم أقل لكم _ ياسادة _ إنّ المنابر تبكي لكنكم لا تسمعون؟!
ورحم الله الشاعر ابو البقاء الرّندي إذ قال:
حتى المحاريبُ تبكي وهــي جامدةٌ
حتى المنابرُ تَرْثِي وهي عيــــداَنُ.
اضافةتعليق
التعليقات