طالما اعتقد البشر أن الكون لا يحتوي سوى على مجرتنا "درب التبانة"، لكن عالمة الفلك الأمريكية هنريتا سوان ليفيت، غيرت هذا الاعتقاد للأبد، اعتمادا على قانون علمي بسيط، ودون أن تحتاج حتى لتلسكوب.
قبل قرن من الزمان، كان الكون يبدو أصغر من الآن بكثير. فالكثير من علماء الفلك كانوا على قناعة بأن الكون يتألف من مجرتنا المعروفة باسم "درب التبانة" ليس إلا، وهو تصور تغير في عام 1923، عندما شيد عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل مرصدا على قمة جبل ويلسون في ولاية كاليفورنيا، ووجه تلسكوب المرصد صوب دوامة حلزونية غامضة متألقة، تبدو من بعيد في السماء حالكة الظلام، وكان يُطلق عليها - وقتذاك - اسم سديم "المرأة المُسلسلة".
ففي ذلك الوقت، لاحظ هابل أن تلك الدوامة، أبعد من أن تكون جزءا من "درب التبانة"، وأنها ليست مجرد سديم، بل تتألف من تريليون نجم، وتبعد 2.5 مليون سنة ضوئية عن الأرض. اللافت أنه لم يكن سيتسنى لهذا الرجل، إبداء هذه الملاحظة الرائعة، لولا الجهود البحثية التي كانت قد قامت بها في السنوات السابقة لذلك، عالمة الفلك الأمريكية هنريتا سوان ليفيت، دون أن تحتاج حتى، ولو لتلسكوب واحد.
المفارقة أن ليفيت حققت اكتشافاتها في هذا الصدد، عبر توجيه عدساتها المُكبرة لأسفل لا لأعلى، تحديدا صوب لوح زجاجي رقيق مُثبت على إطار خشبي، ومغطى من أحد جوانبه بسطح فوتوغرافي حساس، تتناثر عليه نقاط تمثل آلافا من النجوم. وشكلت هذه النجوم التي كانت تظهر بلون أسود على خلفية بيضاء، صورة معكوسة لمشهد السماء الذي نراه ليلا بالعين المجردة. وكانت هذه هي الطريقة، التي تعرفت بها ليفيت على الكون وتفاصيله.
وفي ذلك الوقت، وتحديدا أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت هذه السيدة جزءاً من مجموعة تتألف كلها من النساء، وتعمل في مرصد كلية هارفارد الأمريكية. وعُرِفَت هؤلاء النسوة بمجموعة "العقول الإلكترونية"، ونجحن في اكتشاف عشرات من الكويكبات والسدم والمستعرات، وكذلك آلافا من "النجوم المتغيرة"، التي تُعرف بتباين سطوعها بين التألق والخفوت. وقد لا يبدو غريبا أن تُوصَف ليفيت بـ "الخبيرة البارعة في النجوم المتغيرة"، بالنظر إلى أنها اكتشفت أكثر من 2000 منها بمفردها. وقد أفضى سعيها الحثيث وراء هذه النجوم، إلى أن تنال جائزة أكبر، تمثلت في التوصل إلى طريقة لحساب المسافات عبر الفضاء.
وتمثلت هذه الطريقة في علاقة رياضية كانت تُعرف قديما باسم "نورانية - فترة زمنية". وتربط هذه العلاقة بين مدى سطوع "النجوم المتغيرة النابضة"، والفترة الزمنية التي تستمر خلالها نبضاتها. وبفضل تلك الطريقة، التي بلورتها ليفيت، تمكن علماء الفلك من حساب المسافات الفاصلة بين المجرات، وتوافرت لهابل المعادلة التي كان يحتاجها لرصد الأجرام والنجوم الواقعة خارج مجرتنا، وما بعدها في الكون الفسيح.
وتقول ويندي فريدمان عالمة الفلك والفيزياء الفلكية في جامعة شيكاغو: "لقد تغير تصورنا عن الكون بالكامل، نتيجة لما اكتشفته هذه السيدة".
فبعد أن حظي علم الفلك باهتمام ليفيت في عامها الأخير في الدراسة، التحقت هذه الشابة وقتذاك، كمتدربة بمرصد كلية هارفارد في عام 1895، وهي في السابعة والعشرين من العمر. ولم تكن ليفيت تشكل استثناء في هذا الشأن. فقد كانت الأقسام والجهات ذات الصلة بعلم الفلك، تحتفي آنذاك بشدة بالاستعانة بالنساء، لإنجاز المشاريع العلمية الكبرى، التي كانت تدور في أروقتها، وتستلزم تشغيل عدد كبير من العاملين ذوي الأجور الزهيدة. وتزامنت حاجة تلك الجهات إلى هذا النوع من العمالة، مع إنهاء ليفيت وعدد متزايد من قريناتها دراستهن بتقديرات مرتفعة، كما قالت المؤرخة مارغريت روسيتر، التي تناولت في أبحاثها دور المرأة في المجالات العلمية في مطلع القرن العشرين. ورغم تفوقهن، كانت هؤلاء النسوة، يُستبعدن في تلك الفترة، من التدريس في الجامعات، أو تولي مناصب قيادية.
وقد عُينَت ليفيت في هذه الوظيفة، على يد مدير مرصد هارفارد إدوارد بيكرينغ، الذي قاد مشروعا استمر على مدار عدة عقود لرسم ملامح السماء بالكامل خلال الليل، ثم تصنيف سلاسل النجوم الموجودة فيها، ووضعها في قوائم تتضمن كل منها الأجرام ذات الخصائص المتشابهة.
ووفقا للطريقة التي كانت الوظائف تُقسّم بها بين الجنسين في القرن التاسع عشر، كان يُنظر إلى المرأة باعتبارها عنصرا مثاليا للقيام بعمليات التصنيف هذه، إذ أنها كانت تتطلب القدرة على التحلي بالصبر والاهتمام بالتفاصيل، وهي صفات كان يُعتقد أن النساء يتحلين بها بشكل فطري. أما الرجال، فكان الاعتقاد السائد، يتمثل في أنهم ينزعون بشكل أكبر، إلى تبوء مناصب قيادية، والانهماك في أعمال فكرية، تتمحور حول الرصد والملاحظة ووضع النظريات.
وهكذا كانت النسوة اللواتي يشغلن الوظائف المماثلة لتلك التي شغلتها ليفيت، يتقاضين عادة أجورا زهيدة، ولا تتاح لهن فرص للترقي تقريبا. ففي الوظائف التي مُنِحَت لأولئك النساء، كان بوسعهن الاستفادة من مهاراتهن "الأنثوية"، دون أن يشكلن تهديدا لزملائهن الرجال، سواء على صعيد الأجور أو المكانة الوظيفية.
وفي واقع الأمر، تماشى قرار بيكرينغ بأن يعتمد بشكل رئيسي على النساء في تشكيل فريق العمل لديه، مع ما كتبه هو نفسه في التقرير السنوي لمرصد هارفارد لعام 1898، من أن "تحقيق أقصى قدر ممكن من الكفاءة، يستلزم عدم إلزام المراقب الماهر للنجوم، بأن يقضي وقته في القيام بما يستطيع مساعد له فعله براتب أقل كثيرا". ومصداقا لذلك، كان هذا الرجل يمنح "العقل الإلكتروني" الواحد من بين هذه المجموعة النسائية، 25 سنتا في الساعة، أي ما يصل إلى 1500 دولار سنويا. أما الرجال العاملون في المرصد، فكانوا يتقاضون في السنة 2500 دولار على الأقل.
وحُظِرَ على مجموعة "العقول الإلكترونية" هذه، استخدام تلسكوب المرصد، باستثناء ليفيت وآني جامب كانون، التي التحقت بالعمل في ذلك المكان بعدها بعام واحد. كما أن تعديل المعدات المستخدمة والتقاط الصور الفوتوغرافية للنجوم، كانا قاصريْن على الرجال فحسب. أما الألواح الزجاجية الفوتوغرافية، فكانت تُسلم إلى غرفة "العقول الإلكترونية" الواقعة في الطابق الثاني من الجناح الشرقي في مبنى المرصد، لتحليلها وإجراء الحسابات الخاصة، بما يتناثر على سطحها من نجوم.
وفي تلك الغرفة، كانت النسوة يقضين يومهن منكبات على الألواح التي تُسلّم لهن، لتصنيف النجوم، والتعرف على درجة سطوع كل منها، ووضع قوائم لها. وقد كان هذا العمل مكثفا ومرهقا ونمطيا أيضا.
وكانت مهمة ليفيت تتمثل في تحديد مدى سطوع كل نجم من "النجوم المتغيرة" الموجودة فوق المنطقة القطبية الشمالية، وذلك اعتمادا على تحليل الصور الفوتوغرافية الموضوعة على الألواح الزجاجية لا أكثر. ويعود أحد أسباب تذبذب الضوء المنبعث من هذه النجوم، إلى أنها "تنبض" أو بالأحرى تتمدد ثم تنقبض، نتيجة لأنها تضغط الغازات وتطلقها في دورات منتظمة.
وهكذا فمن نجم لثانٍ ومن لوح تصوير فوتوغرافي لآخر، قضت هذه العالمة الفلكية أيامها في المرصد، مُنهمكة في تحديد مستوى سطوع كل من هذه النجوم، ومقارنتها بالحجم المعروف للنجوم الأخرى، وذلك قبل تسجيل النتائج في دفاترها.
وفي عام 1896، أي بعد سنة من بدء هذه الجهود البحثية، تركت ليفيت مرصد هارفارد للتجوال في أوروبا، والعمل في مجال الفنون بكلية في ولاية ويسكونسن، بالقرب من منزل أسرتها. لكن النجوم نادتها من جديد في نهاية المطاف.
ومع أن هذه السيدة لم تُخلّف أي مذكرات أو دفاتر يومية، وأن مراسلاتها لم تكشف سوى تفاصيل شخصية محدودة عنها، فقد كرست بوضوح كل جهدها للعمل في المرصد، إلى حد أن أحد علماء الفلك الذين عملوا هناك في تلك الحقبة، قال إنها "كانت منغمسة في عملها، بدرجة غير معتادة". كما بدا حبها لهذا العمل واضحا، في ما ورد في رسالة وجهتها لبيكرينغ في مايو/ أيار 1902، أي بعد ست سنوات من تركها المرصد، من أنها تفتقد ما كانت تقوم به هناك، وأنها تشعر بأسف يفوق ما تستطيع الإفصاح عنه، لأن "العمل الذي كنت أتولاه بكل هذه السعادة، وأنجزته إلى مرحلة بعينها بمتعة شديدة، تعين عليه أن يتُرك دون أن يكتمل".
وحتى هذه اللحظة، لا تزال "الشموع القياسية" التي اكتشفتها ليفيت، تضيء درب علماء الفلك عبر الكون، الذي لا يكف عن التوسع والتمدد. ولإبداء التقدير والاحترام لذلك، صوّت علماء الفلك - ومن بينهم فريدمان - عام 2008، على تغيير ما كان يُعرف سابقا بـ "قانون العلاقة النورانية - الفترة الزمنية"، إلى "قانون ليفيت". حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات