بدا البيت موحشاً على غير عادته, مظلماً خَفتَ به كل شيء حتى أصوات العصافير التي كانت تطربنا بزقزقتها صباحاً هجرتهُ كما هجرهُ بسام.
هذا ما بدأت به أم بسام حديثها الممزوج بدموع الفراق, وواصلت قائلة: "منذ صباي وأنا أحلم بتأسيس عشّي العائلي المليء بالكثير من الأولاد, لكن الله لم يهبني سوى بسام بعد طول انتظار, فكنا أنا وأبيه نخشى أن يصيبهُ أي أذى وننصاع لكل رغباتهُ دون استثناء, حتى جاء اليوم الذي يخبرنا به أنه عزم على اكمال دراستهُ الجامعية خارج البلاد, ذهبت محاولاتي سدى بأقناعه في البقاء ولأنني لم أشأ الوقوف أمام نجاحه وتحقيق حلمه, امتثلت إلى رغبته.
تراكمت السنوات بمضيها, تزوج بسام وأنشأ أسرته بعيدا عني, لم أرَ أحفادي ليومنا هذا, ما زلت أترقب عودته ليملأ عشي الذي أصبح مقفراً وخاوياً من بعده !".
وجع الرحيل
مهما كان الترابط الأسري وشيجاً بين أفراد الأسرة فإن نواقيس الفراق لابد أن تدق أجراسها ليشق الأبناء طرقهم في رحلة الحياة, فحينما يكبرون وينهون الدراسة قد يفكر البعض في الزواج أو السفر خارج البلاد لكسب المال أو للتوجه نحو تحقيق حلم ما, وهنا سينتاب الوالدين شعور أليم لخواء البيت وهدوء أركانه وصمت الحُجر من ساكنيها فيبقى الوجع ملازمهم بعد رحيل الأحباب.
ولمعرفة الأثر النفسي لتلك العوائل ومدى تأثير فراق أبنائهم عليهم أجرت (بشرى حياة) هذه الجولة الاستطلاعية:
لوعة الاشتياق
أفاضت أم سجاد عن مرارة الفراق ولوعة اشتياقها قائلة: "ضنك العيش والوضع المادي المتردي جعل أولادي يحاولون بشتى الطرق العثور على فرصةٍ تمكنهم من السفر والعيش خارج البلاد, حتى جاء اليوم الذي أصبح ذاك الحلم حقيقة ليهاجر فيه سجاد ويتبعهُ أخيه بعد شهور عدة".
وأضافت: "لم تسد التكنلوجيا الحديثة فجوة غيابهم فتلك المكالمات والرسائل والصور التي عمدوا على ارسالها لم تكن كافية, حتى الأموال التي أرسلوها لن ترد الجهد الذي رفدتهُ في تربيتهم وتعليمهم ليكونوا ذخراً في أيام كبّري, فما فائدة رَغِد العيش في بيتٍ هجرتهُ الحياة من دونهم".
ثمنٌ بخس
وشاركتنا الحاجة أم ايمان بعتابٍ قاس قائلة: "ربما حرصي وخوفي من فقدانهم لم يكن كافياً للحفاظ على شملهم فتعددت الأسباب للانفصال عن بيت العائلة والاستقرار في مكان آخر بعيدا عن البيت "العش الكبير" الذي آواهم, ليجددوا بدورهم بناء عش صغير لهم وبالفعل ذهب كل منهم إلى حيث يريد.
منذ رحيلهم والبيت يغط بظلمة معتمة كعشٍ هجرتهُ العصافير فأبقى أعد الساعات لحين موعد زيارتهم ليملؤوه مجدداً بالضجيج والنشاط والحركة, بعد أن خصصوا بضع ساعات لزيارتي لمرة أو مرتين في الشهر.
فإن كانت هذه الزيارات ثمناً لتربيتي لهم! فياله من ثمنٍ بخس!".
الأثر النفسي
وعن الأثر النفسي الذي يتسبب لبعض الأبوين لترك أولادهم بيت الأسرة حدثتنا أستاذة علم النفس نور مكي الحسناوي قائلة: "تفرض علينا الحداثة قوانينها بمواكبة الحياة بتفاصيل ابتعدت عن الأطر المتعارف عليها وفق ما كان في السابق, من ارتباط الابن البكر بأسرته وعدم العيش بعيدا عن والديه.
إذ أصبح أغلب الأولاد يفكرون بالاستقلالية بعد الزواج ولربما قبله. وهو حق لا مناص منه لإنشاء أسرة وحياة خاصة به. لكن هذا لا يعفيه من المسؤولية المناطة له اتجاه والديه.
ولا يمكننا أن نعمم هذا الأمر على الجميع, غير أننا في صدد يخص هذه الشريحة التي تتأثر نفسيا بعدما يترك أولاهم المنزل ويستقلون في بيوت بعيدة عنهم, إذ ينعكس الأمر على مجمل صحتهم النفسية والبدنية كونهم يعودون منفردين كما ابتدأوا حياتهم, لأن الأمر منوط بالعاطفة الأبوية الفطرية تجاه الأولاد فيظل الحنين الأبوي لوجود صغارهم بينهم هاجساً يملأ كيانهم".
وعن كيفية التعامل حيال هذا الأمر قالت الحسناوي: "يجدر بأن يكون هناك تواصل أكثر من قبل الأولاد, وبضرورة تواصل الأحفاد مع الأجداد كونهم أكثر خبرة في الحياة, ويمتلكون وقتاً كافيا لقضائه مع أحفادهم, فضلاً عن حرصهم عليهم أكثر من الوالدين بسبب انشغالهم بالعمل وبقائهم خارج المنزل ساعات طويلة.
كما أن الأحفاد يقللون من حدة الضغط النفسي الذي يعاني منه أجدادهم الكبار ويعملون على تخليصهم من الشعور بالوحدة والاهمال, لذا فهم يعطون دافعا نفسيا وعاطفيا وبدنيا يؤثر ايجابيا على صحتهم".
ختمت حديثها: "إن الزيارات الدؤوبة للأولاد والأحفاد, تمنح الأبوين حب الحياة وتجددها, بينما يمنحهم الفراغ مشاعر تنذر بالوحدة واليأس والكبر وعدم الحاجة إلى وجودهم, إذ تصبح أيامهم مجرد وقت يمضي حتى يدق ناقوس الرحيل الأبدي".
اضافةتعليق
التعليقات