منذ صغر سني وانا طامعٌ بفيض كرم الله، كنت دائماً اقول لأمي لماذا لم يخلق الله مكاناً فاصلاً بين الحياة والموت، يذهب اليه الاشخاص الذين تعبوا من الحياة ولكنهم لم يريدوا الإنتحار!.
كانت تجيبني امي بنظراتها الحانية: هل تريد ان تموت؟. كنت ارفع رأسي الى السماء واقول بأعلى ترددات صوتي: لا لا لا.. يا امي انا لم اقصد الموت.
فهمتني بصورة خاطئة يا أمي، انا لا اريد الموت، بالعكس اظن أني سأعمر طويلاً.
كانت تضحك امي وتقول: انت غريب يا ولدي، لا افهم ماذا تريد بالضبط، ومن اين تأتي بهذا الكلام العجيب، تريد مكاناً آخر غير الحياة؟، وفي الوقت نفسه لا تريد ان تموت!، كيف يمكن ان يحدث هذا يا بني؟!.
كنت اقضي بصمتي الفاخر الى وجل اللحظة العميقة، ونظرات أمي الحائرة تحلق في سكون المكان، لم اقلها لكِ يا امي، ولكني بالفعل لم ارد الحياة، وروحي لم ترغب بالموت، اردت مكاناً ثالثاً لأمثالي، للأشخاص الذين لم تريحهم الدنيا، ولم يستطاب لهم الموت.. اليوم وجدت ضالتي يا امي وادركت جيداً ما كنت اريد، انها رائحة الشهادة.. الشهادة يا امي!.
لربما في وقتها كان حلم كل مسلم ان تفيض روحه بين يدي رسوله الأكرم، ويودع الحياة بروح سليمة.. إلاّ انا!.
نعم... كنت اقاتل في ساحات الوغى واخوض المعارك وانا اردد بين نفسي، يا ربي لا أريد الموت، ليس الآن يا الله، ليس الآن، وكأن الشهادة توزع على المؤمنين بنكهات مختلفة، وانا افضل تلك النكهة الشهية التي ليس كمثلها شهادة، وخلود ليس كمثله خلود!.
وكأن ابتسامة الرسول الكريم وانا احارب شر خلق الله كانت دلالة كافية على خوفي من الموت بهذه الطريقة وعلى هذه الأرض، وقلبي معلق بتلك الشهادة الحمراء تحت ظل المحبوب وعلى ارض ليس كمثلها ارض!.
بعد انتهاء المعركة، اجتمع بنا خير خلق الله، وانا انظر الى وجهه يتلألأ وكأنه كوكب دري، والسكون الذي يعتلي المكان كاد ان يشق الليل بهيبته، بينما ألقى الرسول الأكرم خطبته وتحدث عن آثار المعركة، نظر إلي نظرة غريبة، وابتسمت محياه وكأنه يريد ان يبشرني ويطفىء بكلامه ظمأ العمر الذي تحملت صيامه طيلة هذه المدة.
نظر إلي بكل ما أوتي من ايمان، وهمس بكلمات روحانية، تلاشيت على أثرها من شدة الفرحة، نعم قالها، اخيراً قالها، سألحق بالواقعة.. سأشارك المحبوب بالواقعة وسأنال مناي وسأجرب نشوة الطيران وسأحلق في ذلك المكان الذي لطالما حلمت به.
ستلمس جثتي ارض كربلاء، وسيختلط دمي بدم اطهر خلق الله، وستفيض روحي بين يدي المحبوب، هل هنالك سعادة اكبر من هذه! آهٍ متى سيأتي ذلك اليوم الموعود؟، متى!.
بدأت السنوات تمضي قُدماً، شاركت في غزوات عديدة، ولكن هذه المرة كلي طمأنينة واستقرار، ما عدت ارتجف خوفاً من ان أموت ولا احقق رغبتي، حتى مسكة السيف عندي تغيرت، ازددت ثباتاً، بعدما اخذت جواز المشاركة من الرسول الأكرم، وتيقنت بأني لن اترك هذه الحياة قبل ان ابلغ مناي، وانال شرف الشهادة بين يدي المحبوب.
مرت الأيام وبلغت الحروب والمعارك مع الرسول الأكرم، ومن بعد الرسول اكملت المسيرة مع خليفته علي بن ابي طالب (عليه السلام)، واصبحت الايام تمر عليَّ مر السحاب ولا ازداد بها سوى ثباتاً ويقيناً بدين محمد وآله، وكلي أمل بذلك اليوم الموعود الذي اشهد فيه الواقعة الكبرى وازف الى جنتي مع اولاد الطهر.
كل من حولي شهدوا عليّ سوء صحتي وضعف بدني وكبر سني، ولكني ما لاحظت ذلك على نفسي ابداً، الاّ بعد ما سألني احد المارة:
- يا انس ابن الحارث الكاهلي هل لاحظت بأن لك من اسمك نصيب؟
-ابداً
- كيف ذلك وانت رجل كهل؟
-ربما يكون جسدي كذلك، ولكن روحي ليست كهلة، انها تزهر يوماً بعد يوم.
كلما دنوت اكثر من يومي الموعود، اخضرت ايامي وازهر قلبي.. وكأني في عد تنازلي للقاء المعشوق بأرض كربلاء!. اريد ان اعيش الثبات بينما ارى اللحظات الأخيرة تتراقص أمام عيني وقد غزا الشيب رأسي، وصوتي أصبح شبه خافت!، وكلي فخر بأني سأسقط شهيداً امام الحسين (عليه السلام) بوهن عظمي وكبر سني وأنا محنط باليقين التام، بأنه ليس هنالك شهادة كشهادة اصحاب الحسين بكربلاء!.
اصبحت الايام تلفظ انفاسها الاخيرة معي، وكل من كان يراني كان لا يصدق بأني سأوافي مهجتي مع الحسين (عليه السلام)، حتى قال لي احدهم وانا انتظر في منطقة الطف:
- ماذا تفعل في هذه الصحراء أيها الشيخ الكبير؟
- انتظر يوسفي...
- اراك ملازماً هذا المكان منذ وقت طويل، هل سيرد اليك (يوسفك) شبابك؟
-لا يا ولدي، لن يرد الي شبابي... سيرد إلي البصيرة.
رمقني بنصف ابتسامة واكمل طريقه، وبقيت أنا جالساً في مطرحي، انتظر يوسف زماني علّه يأتي الى كنعان العشق ويرد إلي بصيرتي، ويطفىء لهيب الانتظار المشتعل في دواخل وجودي.
اقتربت الساعة... بدأت اشم ريح يوسف، صدى الشهادة بات يعزف ألحانه قريبا من مسمعي، نعم، انا ارى ذلك اللون الاحمر يعتلي الافق، بدأت دقات قلبي تتسارع وكأنها تردد أبهى آيات العشق الالهي مع نسيم الصيف الحار.
تحقق وعد الرسول، رأيت الحسين (عليه السلام)، ها هو الحجة وها هي كربلاء وها انا.. هل لي أن اقول بان الاسطورة قد تحققت؟!، ولكنها ليست باسطورة... انها حقيقة، اذن تحققت الحقيقة.
لم تصدق عيني بأني أصبحت قريباً من الواقعة الى هذه الدرجة، احساس غريب بدأ يأكل حنايا قلبي، بدأ ينبت لي جناحان، طافت روحي بهما اثني عشر مرة حول الطف.
ما أعرفه بأن الروح تفيض الى السماء، اذن لماذا عندما سجدت سجدة شكر شعرت بأن روحي فاضت الى الأرض؟!.
تساؤلات كثيرة بدأت تتراقص في بالي.. فكل ما بات يحصل معي خارق للطبيعة الكونية، قلت مع نفسي: وعلى أساس ان ما سيحصل على هذه الارض قابل للتصور والتصديق!، ثم طردت جميع الافكار من رأسي لأستمتع بعمق اللحظة... وبعدما طلب مني المحبوب الأمر بالمعروف لهداية القوم، خرجت اليهم، وتمنيت لهم الهداية، حدثتهم عن ذلك المكان الذي ستفوز ارواحهم بالسكينة والحب، وسيحلقون على اثره الى جنة الطمأنينة والخلود!، ولكنهم كانوا ابعد من ان يفهموا لغة العشق هذه!، فقد اخذتهم العزة بالكفر!!.
ثم اخذت اذن الخروج من الولي، ووجهي يهلّل فرحاً غير مصدق بأني سأحيى من جديد، اعلم بأن الناس سيظنون بأني مت ظمآناً بكربلاء!، ولكن الحقيقة ليست كذلك، الحقيقة هي إني عانيت تسعين عاماً من عطش الإنتظار، لآتي الى ارض كربلاء واسقي عطشي بواقعة الطف هذه.
قتلت ثمانية عشر شخصاً بسيفي، ثم بدأت اشم تلك الرائحة... نعم انها هي، هي نفس تلك الرائحة التي حدثت امي عنها، والله هي... انني اشم العزة في الوجود.
اصبحت الرائحة أقرب الي... بدأت اركض الى مصدرها برجليّ الكهلتين، واردد مع نفسي: اماه هذه هي الرائحة التي حدثتك عنها.. انها تأتي من ذلك المكان المقدس الذي لطالما حلمت به، انها هي، والله هي.. بينما كنت اركض الى مصدر الرائحة الزكية لتأخذني الى حلم عمري، حتى انتبهت في الحقيقة بأنني لم اكن اركض بل كنت اطير!.
اضافةتعليق
التعليقات