تواجه المجتمعات العربية، وخاصة العراقية، أزمة ثقة واضحة بين الحاكم والمحكوم. ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى الإخفاقات السياسية التي مرّ بها الشعب العراقي عبر حكومات متعاقبة، وما رافقها من فساد وسوء إدارة وتقديم للمصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة. ومع تكرار هذه التجارب، بدأ المواطن يفقد الأمل بظهور قيادة جديدة مخلصة، لولا تدخل المرجعية الدينية التي شجعت الناس على اختيار الأصلح ومنع عودة الفاسدين إلى مواقع القرار.
ورغم انتشار الفساد، فإن هذا لا يعني غياب الصالحين القادرين على إعادة الأمل. فالتاريخ يعلّمنا أن وجود الباطل لا يلغي وجود الحق؛ فمع حكومة معاوية كان عليّ عليه السلام يقف بثبات مع قلة من أصحابه، مما يؤكد أن قوة الباطل تنبع من كثرة الواقفين معه، لا من جوهره نفسه. ومن هنا ندرك أننا نحن من نقوّي الجبهات؛ فإن وقفنا مع الحق انتصر، وإن ساندنا الباطل ازداد سطوة.
وبعد الانتخابات الأخيرة وصعود شخصيات يُرجى منها الخير –خصوصًا من الشريحة النسوية– برزت الحاجة إلى قدوة تُعين المسؤول على الثبات وتمنحه اتجاهًا واضحًا في وسط التحديات السياسية. فالحياة السياسية مليئة بالاختبارات، ولا بد للمسؤول من نموذج يهتدي به كيلا تزل قدمه أمام المغريات.
وتُعد السيدة الزهراء عليها السلام خير نموذج يُحتذى به؛ فقد عاشت زمنًا سياسيًا مضطربًا، وكانت الأمة فيه تميل نحو الباطل. ومع ذلك بقيت ثابتة، مدافعة عن الحق دون خوف أو تراجع، رغم وحدتها وشدة التيار المعادي لها، حتى أنها ضحّت بروحها وجنينها في سبيل أداء تكليفها.
إن طريق الإصلاح ليس سهلًا، فهو طريق مليء بالاختبارات التي يسعى الشيطان من خلالها لإسقاط الإنسان عبر مغريات السلطة والمال. ولهذا ينبغي لكل من اختار العمل السياسي أن يكون قويًا في مبدئه، واضح الاتجاه، فلا تغرّه المناصب ولا يوقعه بريق السلطة كما حدث مع كثيرين فقدوا مبادئهم في أول امتحان.
القيم الفاطمية ودورها في بناء الثقة
1. القيادة القائمة على خدمة المجتمع
مثّلت السيدة الزهراء عليها السلام نموذجًا للقائد الذي يرى القيادة مسؤولية لا امتيازًا. فقد شاركت في خدمة الناس في مختلف الميادين، وأسهمت في دعم المجتمع والجيش، وكانت سندًا للنساء والمحتاجين، حتى أنها أهدت قلادتها للفقراء. ومن هنا نستنتج أن القيادة الخدمية هي المفقودة اليوم، إذ تحولت الوعود الانتخابية إلى شعارات فارغة تنتهي بانتهاء الحملات، بينما يحتاج المجتمع إلى تحويل الأقوال إلى فعل حقيقي.
2. الدفاع عن العدالة كجوهر للقيادة
لم يكن دفاع السيدة الزهراء عليها السلام عن الإمام علي دفاعًا زوجيًا، بل دفاعًا عن الحق والخلافة الشرعية. فقد واجهت الأمة وحدها لأنها رأت أن واجبها الشرعي هو الوقوف مع الحق مهما كانت قوة خصومه. وهذا يذكّرنا بواقع اليوم، حيث يخضع بعض المسؤولين للباطل لأنه الأقوى سياسيًا أو دوليًا، فيتنازلون عن مواقفهم السيادية إرضاءً لقوى خارجية. لكن الخضوع للظلم يهدم كرامة الأمة ويزيدها ضعفًا.
وقد عبّرت الخطبة الفدكية عن وعي سياسي متقدم، إذ طالبت بالعدالة وبيّنت خطورة التفريط بالحقوق العامة. ولذا يمكن اعتماد قيمها أساسًا لأي مشروع إصلاحي حديث يهدف إلى:
-تحقيق تكافؤ الفرص.
-توزيع عادل للثروة.
-مكافحة الفساد ومحاسبة المتجاوزين مهما كانت مناصبهم.
3. الشفافية والصدق في قول الحق
تجلّت في شخصية السيدة الزهراء عليها السلام قيمة الشفافية؛ فقد كانت واضحة في مواقفها، صريحة في كلماتها، ومباشرة في إرشاد الأمة نحو الحقيقة، كما ظهر ذلك في خطبتها الفدكية التي بيّنت فيها ما يحدث خلف الستار دون تورية أو تنازل.
هذه القيمة من أهم ما تحتاجه المجتمعات اليوم، إذ إن انعدام الشفافية أحد أكبر أسباب تآكل الثقة بين الشعب وقيادته. فالقائد الصادق الصريح يبعث الطمأنينة في نفوس الناس، ويؤكد لهم أنه لا يخفي عنهم ما يخص حقوقهم ومستقبلهم.
4. المسؤولية الأخلاقية تجاه الضعفاء والفقراء
لم يكن عطاؤها عليها السلام مجرد مساعدة مادية، بل كان يحمل روحًا إصلاحية تجعل من الفئات الضعيفة محور اهتمام. تعاملت مع الفقراء كأصحاب حق، لا كأصحاب حاجة، وكانت ترى في رعايتهم جزءًا من مسؤولية القيادة.
وإعادة بناء الثقة اليوم تبدأ من هذه النقطة تحديدًا؛ فالشعوب لا تثق بقيادة لا تشعر بآلامها، ولا تهتم بمطالب أبسط طبقاتها. والسياسي الذي يضع الضعفاء في قلب برنامجه هو الأكثر قدرة على كسب احترام الناس.
5. التضحية ونكران الذات في أداء الواجب
قيمة نكران الذات تتجلى بوضوح في حياة السيدة الزهراء عليها السلام؛ فقد ضحّت بوقتها وصحتها بل وبروحها في سبيل الحق. لم تبحث عن موقع، ولم تسعَ لزعامة، بل جعلت مصلحة الأمة فوق مصلحتها.
وهذه القيمة اليوم مفقودة عند كثير من المسؤولين الذين يرون المنصب فرصة للربح لا ساحة للتضحية. بينما القائد الذي يضع نفسه آخرًا، ويقدّم المصلحة العامة أولًا، هو الذي يعيد الثقة إلى نفوس الناس ويبعث الأمل في مستقبل أفضل.
بالنهاية القيم الفاطمية ليست مجرد تاريخ نقرأه، بل هي مشروع إصلاحي قابل للتطبيق في كل زمان، وخاصة اليوم حيث تتفاقم أزمة الثقة بين الشعب والقيادة. والاقتداء بنموذج السيدة الزهراء عليها السلام في العدالة، والخدمة، والشفافية، والمسؤولية الأخلاقية، والتضحية، يمكن أن يعيد بناء علاقة أكثر توازنًا واستقرارًا بين الدولة والمجتمع. فمع تزايد التحديات السياسية، تصبح العودة إلى هذا النموذج ضرورة لإعداد قيادات تحمل روح المسؤولية وتسهم في استقرار الوطن وتقدمه.








اضافةتعليق
التعليقات