قبل أن أبدأ كتابة هذا المقال، حذفت الجملة الأولى، ثم أعدت كتابتها، وهكذا حتى بلغت المحاولة الرابعة، قبل أن أقرر أن أكون صادقة في كل شيء، حتى في تردداتي الكتابية – لو صحّ التعبير.
أشعر بأنني فقدت القدرة على صياغة الكلمات الجيدة، أشعر بأنني هُزمت، وأن كلماتي أصبحت فارغة من الداخل…
هذا العجز الذي أواجهه اليوم في كتابة المقال يعود إلى سبب كبير ومهم للغاية؛ فابتعادي عن الكتابة لم يكن محض انشغال بأمور حياتية أخرى، بل أكثر من ذلك بكثير.
ابتعدت عنها لأنني كنت أقول لنفسي: ما الذي سأكتبه يا ترى ولم يتطرق إليه الذكاء الاصطناعي أو المواقع الكثيرة مثل “تشات جي بي تي” و”ديب سيك” وغيرها؟
بكبسة زر واحدة يستطيع أي شخص أن يحصل على أي مقال يريده، وفي أي موضوع يختاره. فلماذا أجهد نفسي ووقتي في كتابة موضوع قد يحتوي على بضع أخطاء إملائية يلاحظها القرّاء وينتقدونني عليها، بينما البرامج الذكية تستطيع أن تقدّم مقالًا متكاملًا من حيث الصياغة والمعنى دون عناء أو جهد يُذكر؟
لا أنكر أنني فقدت شغفي في أمور كثيرة، ولكن الكتابة كانت أهمها.
هذا السيل الرقمي الذي اجتاح حياتنا في السنوات الأخيرة جرف معه كثيرًا من الشغف، وتسبب بشللٍ عند بعض الموهوبين والفنانين.
من الطبيعي أن يُصاب الإنسان بالإحباط عندما يرى الذكاء الاصطناعي ينجز في ثانية واحدة ما يحتاج العقل البشري إلى أيامٍ لإنجازه!
لكنني بعد رحلة بحث طويلة، اكتشفت أن هذه ليست مشكلتي وحدي، بل إن الكثيرين حول العالم يعانون منها أيضًا.
لقد أصبح اعتماد الناس الكامل على الذكاء الاصطناعي أمرًا يثير الجدل والدهشة في آنٍ واحد.
ولم يقتصر الأمر على تصحيح الأخطاء الإملائية أو الصياغية فحسب؛ بل تعدّاه إلى الاعتماد عليه في كل شيء تقريبًا: استشارات نفسية، نصائح زوجية، وصفات طبخ، اختيار شريكة حياة مناسبة، بل وحتى اختيار البطيخة الحمراء من الداخل! وأكثر من ذلك بكثير.
العالم أصبح مرعبًا بالنسبة لي…
فبوصفي كاتبة، أتخيل أن الذكاء الاصطناعي يجلس في الزاوية يضحك عليّ، بينما أستغرق وقتًا طويلًا في إيجاد عنوان مناسب لمقال، وهو يقدّم لمستخدميه مئات بل آلاف العناوين خلال ثوانٍ فقط!
ماذا سأفعل الآن؟ وماذا سيفعل مئات، بل آلاف الكتّاب الآخرين في هذا العالم؟ وماذا سيفعل الرسامون والمصورون والممنتجون أيضًا؟
فكل الأعمال غير الملموسة بات الذكاء الاصطناعي قادرًا على إنجازها بجودة عالية ووقت أقل.
إذن، ما العمل؟
في الحقيقة، دائمًا هناك شيء يدفع الإنسان نحو الأمام، شيء كالوقود، شيء يعيش من أجله بل خُلق من أجله… إنه التكليف، النابع من إحساس الإنسان بالمسؤولية.
كل إنسان في هذا العالم سيحاسَب على ما خُلق لأجله، وما سيموت عليه.
ولأن البشرية اليوم تمرّ بمخاضٍ عسير وصراعٍ كبير بين الحق والباطل، فعلى الإنسان أن يعمل بتكليفه رغم كل ما يحدث في هذا العالم.
فإن استطاع الذكاء الاصطناعي أن يغطي عمل الكاتب، والشاعر، والرسام، والمصور، والممنتج، فهذا لا يُسقط تكليفك كونك خليفة في الأرض، ولك رسالة يجب أن تؤديها في هذه الحياة.
فإذا كان الجميع يصلّون، فهذا لا يعني أن تكليف الصلاة يسقط عنك لأن غيرك أدّاها!
كلٌّ يُحاسَب على عمله، ولا حجة أمام الله في أي تقصير حاصل في نصرة الحق وإقامة العدل، يقول المولى أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارّوا على كظّةِ ظالمٍ ولا سَغَبِ مظلومٍ»[1]
أي إن الله تعالى حمّل أصحاب العلم، وكل من يملك بصيرة، مسؤولية كبرى: ألا يسكتوا عن الظلم. وكل حجّة أو ذريعة ستكون باطلة يوم القيامة.
حين يستشعر الإنسان هذه المسؤولية، يجدد نظرته إلى شغفه وأحاسيسه المتقلبة.
فالمجتمع اليوم أمام هجمة فكرية وثقافية وإعلامية شرسة جدًّا من قبل العدو، الذي سخّر جلّ طاقاته البشرية والرقمية ليحارب الحق بكل الطرق والأساليب، ومع ذلك نراه صامدًا على الباطل، لم يردعه انعدام الشغف أو غيره من الأعذار التي بات الإنسان المسلم يتذرع بها ليبرر تهاونه عن تكليفه.
فالإنسان سواء كان كاتبًا، أو رسامًا، أو معلمًا، أو موظفًا، أو إعلاميًا يستطيع أن يعمل بتكليفه من منبره وبطريقته الخاصة.
فلعل الله يهدي به رجلًا واحدًا، فيكون خيرًا له مما طلعت عليه الشمس.
إن تكليف الإنسان لا يقترن بوجود البدائل أبدًا، وعليه أن يستخدم هذا التطور الرقمي بالشكل الذي يخدم قضيته وفكره، ويساهم في نشره وتوسيع أثره.
كما أن ثمة أمرًا مهمًا:
الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الروح، بينما الكتابة والفنون تحتاج إلى روحٍ تخاطبك وتحمل المشاعر والأحاسيس، وهذا ما لا يمكن للعالم التقني أن يمتلكه.
لكن هذا لا يعني أن نستغني عن الذكاء الاصطناعي؛ فهذه التقنيات وُجدت لخدمة البشرية.
يستطيع الكاتب أن يطوّر أفكاره من خلالها، أو يستعين بها لتصحيح الأخطاء النحوية والصياغية التي يحتاجها لإتمام عمله بدقة أكبر.
فهي وسيلة مساعدة، لا بديلًا عن الإنسان.
فالكاتب هو الأصل، والحياة الرقمية وُجدت لتسهّل عليه تكليفه وتسانده وتقوّيه في معركته ضد الباطل، لا لتلغي وجوده وتمحو حروفه.
ومهما تكاثرت الوسائل وتوفرت البدائل، يبقى الإنسان المسلم مسؤولًا عن الحق بنفسه ومواقفه وعمله.
اضافةتعليق
التعليقات