كم كانت ضمائرهم حيّة وهم يتقاتلون على المنية دون الحسين عليه السلام؟ وكم كانت شواخصهم واضحة وهم يرتلون ايات الجهاد في سوح المنازلة؟ وكم كانت وقفتهم مع امام زمانهم وقفة واعية قلّ ان يكررها الزمان، او ان يأتي بمثلها الاقران؟
لقد ادركوا بنهضتهم المباركة والتي سجلها التأريخ بأحرف من نور، ان اخطر انواع الموت هو موت الضمير.. اما موتهم في سبيل الحق، وفناءهم في سبيل المحبوب، حلو وجميل بل العسل احلى منه بكثير.
موت الضمير لم يكن فجائيا كما يعتقد البعض، بل مرّ بمراحل عديدة واخذ جرعات من الموت البطيء منذ وفاة الرسول صلى الله عليه واله حتى تسلط على رقاب الامة والٍ مثل يزيد لعنه الله.
وقد يتساءل احدكم: وكيف تموت الضمائر وتذوي البصائر؟
الجواب: ان الرعيل الاول او ممن بقي من الرعيل الاول مع الامام الحسين عليه السلام، كانوا قلة قليلة، وهم سيتركون مكانهم للجيل الجديد القادم، الذي لم يكن معتادا على مناقبيات واخلاق الذين عاصروا النبي، فلم يكن الجيل الجديد على سوية واحدة من الوعي واليقين وفورة الايمان، وما كانوا يمتلكون سمات الشجاعة والتضحية مما يؤهلهم للنهوض بواقعهم المزري... وكان الامام الحسين حريصا على اظهار حقيقة ال امية فأبى السكوت كيلا يستشري الصمت على ما يجري في قصور الامراء، او تُغض الابصار عن فضائح سلاطين بني امية، والتي باتت واضحة لكل ذي عينين... لذا قال قولته الشهيرة: وعلى الاسلام السلام اذا ابتليت الامة براعٍ مثل يزيد .
فقام الامام بثورته الخالدة لكي يوقظ هذا الضمير المتبلد، الذي اعتاد على المداهنة والسكوت وغض الطرف والسكون وحياة الدعة والسلامة، ثار الامام لكي يقول لهم: لا تكونوا لا مبالين بما يجري حولكم، والا كنتم معهم شركاء فيما دخلوا فيه، وسيشملكم العذاب ان سكتّم او داهنتم او فضلتم السلامة على منازلة الشجعان .
فخرجت من هذه الامة ثلة مؤمنة، أبت ان تنتكس راية الهدى، ورفضت ان تبايع او تصافح ايادي تلطخت بالدماء الزواكي... عن اصحاب الحسين نحدثكم .
ما اجمل الوسام الذي قلّدهم به ابو الاحرار عليه السلام حين قال لهم مخاطبا: اما بعد فاني لا اعلم اصحابا اوفى ولا خيرا من اصحابي، ولا اهل بيت ابرّ واوصل من اهل بيتي... فجزاكم الله عني خيرا جميعا، الا واني اظن يومي من هؤلاء الاعداء غدا، الا واني أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلٍ ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا .
(لقد اشرقت في سماء كربلاء كواكب دريّة من بني هاشم، ونجوم ومصابيح من انصار الحسين -ع- فمعسكر الحسين قد ضم خلقا ما رأى الدهر مثلهم، لم يسبقهم الاولون، ولا يلحقهم الاخرون، وليس ذلك الا لأجل شدة تأسيهم بأمامهم وسيدهم ابي عبدالله الحسين -ع- واتباعهم له في اعظم المواقف، ووقوفهم معه في اشد الساعات... فانهم اقمار اكتست واكتسبت نورها ووهجها من شمسها الحسين، وكواكب طافت بالامامة وحلّت بفناءها واناخت برحلها، فكما انه سيد الشهداء، فانهم سادة الشهداء من بعده في الدنيا والاخرة) (١).
ما اكثر الذين تكلموا وتفيقهوا وتفلسفوا لكنهم عند الامتحان يتساقطون الواحد تلو الاخر كتساقط اوراق الخريف... الا اصحاب الحسين هؤلاء ترجمان الشهادة وصوتها المدوّي الازلي قد عبر الزمان والمكان، لو استنطقناهم لنطقوا اوَ ليسوا هم احياء عند ربهم يرزقون؟
اذن بماذا اجابوا سيدهم وقائدهم حينما قال لهم: قد أذنت لكم فانطلقوا؟!
الشهيد السعيد زهير بن القين يجيب فيقول: (والله لوددت اني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل هكذا الف مرة، وان الله يدفع القتل عن نفسك وعن انفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك).
ما اعظمه من موقف ياسيدي زهير بن القين؟! كلمات تتلألأ اخلاصا وتفانيا قلّ نظيرها في قاموس الولاء... هي والله كلماتك الخالدات سترددها الشفاه ما كرّت الليالي والايام .
اما الشهيد السعيد برير بن خضير فلقد كان شيخا تابعيا زاهدا عابدا، وكان اقرأ اهل زمانه ويسمى بسيد القرّاء (٢).
ما كان برير ليدع الحسين بمفرده وهو العارف بزمانه، والتالي لكتاب الله ليله ونهاره، أليس هو المرتجز في ساحة الوغى؟ بقوله انذاك :
انا برير وابي خضيرُ
لا خير فيمن ليس فيه خيرُ.
لقد رأى برير ان الخير كل الخير في نصرة اهل بيت النبوة، فما لان ولا استكان وما اعطى الدنية لقوم لا دين لهم سوى قتل اولاد الانبياء، وهو القائل في يوم النزال والمواجهة: اقتربوا مني ياقتلة المؤمنين، اقتربوا مني ياقتلة اولاد البدريين، اقتربوا مني ياقتلة اولاد رسول رب العالمين وذريته الباقين.
تلك والله منازلة الشجعان ممن يعشقون الموت ويتلذذون به... ستبقى منازلتك الابهى سيدي يابرير لانها متوّجة بنور القرآن .
اما الشهيد السعيد مسلم بن عوسجة فيجيب قائلا: أنحن نخلّي عنك؟! وبما نعتذر الى الله في اداء حقك؟ لا والله حتى اطعن في صدورهم برمحي، واضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة... والله لا نخلّيك حتى يعلم الله انّا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك، اما والله لو علمت اني اقتل ثم احيا ثم احرق ثم احيا ثم اذرى يُفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى القى حمامي دونك، فكيف لا افعل ذلك وانما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها ابدا.
أي عشقٍ هذا الذي تملّككم ايها الشهداء الابرار؟! واي ذوبان صهركم في بوتقته وانتم تسطرون بملاحمكم اروع دروس العشق والوله للعاشقين الوالهين؟!
كنتم خير اصحاب واتباع لانكم رأيتم ببصيرة ايمانكم قبح العيش بعد الحسين... وادركتم ان الحياة بلا حسين مذلّة ما بعدها مذلّة، من هنا تدافعتم للمنية وتسابقتم لاحتضان الموت الذي لابد منه، فجزّاكم الحسين عليه السلام بعد مقولتكم هذه، ان قال لكم: جزاكم الله خيرا... وهل بعد كلام الحسين من كلام؟.
اما الشهيد السعيد حبيبب بن مظاهر الاسدي، فكان واحدا من السبعين الذين نصروا الحسين في يوم عاشوراء ولم يفردوه وحيدا في ميدان الجهاد... ولقوا جبال الحديد واستقبلوا الرماح بصدورهم والسيوف بوجوههم، وهم يُعرض عليهم الامان والاموال فيأبون فيقولون: لا عذر لنا عند رسول الله ان قُتل الحسين ومنا عين تطرف .
لقد جاء هذا البطل الى كربلاء بدعوة خاصة من الامام، ووقف عند خيمة العقيلة زينب قائلا: يامعشر حرائر رسول الله هذه صوارم فتيانكم آلوا ان لا يغمدوها الا في رقاب من يبتغي السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم اقسموا ان لا يركزوها الا في صدور من يفرق ناديكم.(٣)
فيا لهذا الموقف الذي سكّن الروع في قلوب النساء.. واورث الشجاعة في قلوب الانصار .
واذا نسينا فانّا لا ننسى قولك ياحبيب لاصحابك ليلة العاشر حينما قلت لهم: فاذا صار الصباح فاول من يبرز الى القتال انتم، نحن نتقدمهم القتال ولا نرى هاشميا مضرجا بدمه وفينا عرق يضرب.
اوَ لست القائل ياحبيب :
انا حبيب وابي مظهّر
فارس هيجاء وحرب تسعر
وانتم عند العديد اكثر
ونحن اعلى حجة واظهر
وانتم عند الوفاء اغدر
ونحن اوفى منكم واصبر
فنعم الوفي انت ياحبيب ونعم الصابر.. صبرت واحتسبت واعنت حتى كتبك الله في الشهداء السعداء، ولله درّك ياحبيب الحسين لقد قتلت في سبيل الحق، وقدمت نفسك فداءً لسيدك ومولاك وعندما يُصرع الانسان من اجل الحق فانه يتحول الى مَثلٍ يُحتذى وقيمة حضارية يعشقها السائرون على نهج ذات الشوكة.. لقد هدّ مصرعك الحسين عليه السلام حتى قال فيك: عند الله احتسب نفسي وحماة اصحابي. هي والله مقولة تنبىء عن عمق حزن سيد الشهداء على فقد الاحبّة وانت منهم ياحبيب .
فياسادتي الابطال ويافرسان الهيجا، يامن وضعتم ارواحكم على اكفكم وانتم ترتلون ايات الجهاد في ساحة الكرامة، اذكرونا عند ربكم بدعوة، فلقد اكرمكم الله بالشهادة، لعلنا بكم نلحق فانتم السابقون ونحن من وراءكم ان شاء الله .
اضافةتعليق
التعليقات