إن حدود الشخصية العظيمة ترسمها اﻷخلاق. فسمو الذات إنما هو بسمو المعنى، وعلو المكانة هي في تلك اﻷصول اﻷخلاقية التي يلتزم بها الرجال، وهي المقياس في تقييم أعمالهم وأفعالهم.
ومن دون اﻷخلاق، فإن أكبر الانتصارات في التاريخ يمكن أن تتحول إلى هزائم إذا كان أصحابها يتوسلون للنيل بها إلى الغدر والخيانة والمكر والخداع. ﻷنه "ما ظفر من ظفر اﻹثم به، والغالب بالشر مغلوب".
فقيمة الانسان بإنسانيته..
وقيمة العمل بمحتواه..
وقيمة الدين بالترفع عن الدنايا.
وميزان البطولة هو اﻷخلاق.
ف"الخلق وعاء الدين" وهو "عنوان صحيفة المؤمن".
وما يوضع في ميزان امرىء يوم القيامة أفضل من حسن الخلق.
من هنا فإنه "لا قرين كحسن الخلق" و "لا عيش أهنأ من حسن الخلق".
ﻷن من "حسنت خليقته طابت عشيرته" وعلى كل حال فإن "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" "فاﻷخلاق من ثمار العقل".
صحيح أن في داخل كل إنسان كوامن خيرة، تدعوه إلى الالتزام باﻷخلاق، والعمل الصالح، وكوامن شريرة تدعوه إلى الفساد والشر ومناوأة الصالحين، غير أن العقل والعلم والدين إذا كانت في امرىء فإنها تثير كوامنه الخيرة، وتقمع كوامنه الشريرة، فيكون ملتزما باﻷخلاق.
يقول اﻹمام علي عليه السلام: "رأس العلم: التمييز بين اﻷخلاق، وإظهار محمودها وقمع مذمومها".
ويقول: "ابذل في المكارم جهدك تخلص من المآثم وتحرز المكارم".
وبمقدار ما تكون اﻷخلاق الحسنة مطلوبة، فإن سوء الخلق مذموم.
سئل الإمام علي عليه السلام عن أدوم الناس غما، فقال عليه السلام: "أسوأهم خلقا".....
وما يميز الصادقين عن غيرهم هو مقدار ترفعهم عن شرار صفات الرجال، وتمسكهم بخيار صفاتهم. أما الكاذبون فهم من يتوسل لنيل مقاصده بكل ما يستطيع، من غير أن يلزم نفسه بحدود، أو يلزمها بأخلاق.. معتبرا النجاح، لا الالتزام، ميزان العمل..
ولقد كان اﻹمام علي عليه السلام إلى جانب ايمانه وحكمته، وعلمه، وبلاغته في القمة من الناحية الخلقية، وذلك من أسباب تميزه على مناوئيه على مر التاريخ.. فقد كان صورة حية للمروءة، والصدق، والوفاء، وكرم النفس، والصراحة، والشجاعة والعطف، والنبل، والصبر، ونكران الذات..
وعلى العكس كان مناوئوه الذين كانوا نموذجا لﻹثرة، واﻷنانية والملق، والدجل، والمكر، والانحدار في اﻷخلاق..
وبالرغم من أن العصر الذي عاش فيه كان عصر حب الدنيا واﻹقبال عليها، وعصر الذهب والفضة، والمداورة، والمؤامرة والزيف، والحيف، فإن اﻹمام رفض أن ينتصر على حساب أخلاقه، وكان يقول لمن كان يوصيه بخلاف ذلك: "أتأمروني أن اطلب النصر بالجور، والله لا أطور به ما سمر سمير وما أم نجم في السماء نجما".
فاﻹمام علي عليه السلام -كما يقول أحدهم- "لا يرضى الدنية في دينه أو دنياه، يعرف طريق الغدر ولا يسلكه، الخدعة عنده لا تجوز إلا في الحرب ولا يمارسها، أما في زمن السلم فهي لون من الخيانة والكذب، ومسلك زري لا يجمل باﻹنسان التقي..
هو قدوة: له قيمه العليا ومثله السامية التي يتمسك بها ولا يتنازل عنها ﻷنه تربى عليها، وﻷنها وحدها هي الجديرة - في رأيه - بإصلاح الناس..
يعرف ما يرضي الناس - كما قال لهم - ولكنه لا يأتيه، ﻷنه يرى فيه ظلما لﻵخرين، واغضابا لله!
اﻹمام علي رجل دولة بصير بسياسة أمور الرعية، ولكنه يريد أن يقيم سياسته على دعائم من مكارم اﻷخلاق، ولا يضيره ما يعاني وهو يشق الطريق الوعر الى الحقيقة، ليقيم العدل، ويحقق للناس المساواة، ويدفع الظلم، ولو أنه عدل عن نهجه السوي لحظة، لتهدمت قيم نبيلة، وانهارت مثل عليا".
اﻹمام علي يرى أن صلاح الغاية لا يتم إلا بصلاح الوسيلة، وغايته مصلحة اﻷمة، وصلاحها، الامام علي استقى من منبع النبوة، وتربى بخلق النبوة، فكان رباني هذه اﻷمة..
لقد كان عليه السلام عظيما في شخصيته، ولم يكن يستمد من مظاهر القوة الفارغة من البطش والتنكيل، وما شابه ذلك. ولم يكن ممن يغريه سلطانه، وقوته الجسدية، أن يأخذ أحدا بأكثر مما يستحق، أو أن تسمح له سلطاته الواسعة تجاوز مفردة واحدة من مفردات اﻷخلاق الرفيعة.. بل كان يرد البذاءة الشخصية بالعفو والصفح، والرد الجميل.
إن كرم النفس عند اﻹمام والتزامه باﻷخلاق الحسنة كانت تدعوه إلى الصفح والعفو حتى ﻷلد أعدائه والحرب لا تزال قائمة..
بالرغم من أنه عليه السلام كان يحكم بلادا شاسعة، فإنه كان يمشي وحده من غير حرس أو حاشية، وذات يوم شاهد في الطريق المشترك بين البصرة والكوفة، رجلا فسأله عن وجهته فقال إنه يقصد البصرة وفي المقابل كان اﻹمام يقصد الكوفة. وبعد أن سأله اﻹمام عن اسمه وقبيلته تبين أنه ليس مسلما بل هو ذمي. كان الطريق مشتركا، وحينما وصلا إلى المفترق انصرف الرجل نحو طريق البصرة ففوجىء باﻹمام ينصرف معه في ذات الطريق.
فقال لﻹمام - ولم يكن يعرفه بعد -: "ألم تقل إنك تقصد الكوفة؟
قال اﻹمام: بلى.
فقال الرجل: ولكن هذا طريق البصرة.
قال اﻹمام: قد عرفت. ولكن نبينا أمرنا أن نشيع أصحابنا أربعين خطوة.
فقال الرجل: وهل أصبحت صاحبك؟
قال اﻹمام: نعم.. أنت صاحبي في هذا الطريق.
فسأل اﻹمام عن اسمه، فتبين له أنه أمير المؤمنين. فأسلم على يديه وقال: "والله إنها أخلاق اﻷنبياء".
اضافةتعليق
التعليقات